رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
1٬425   مشاهدة  

الربيع الكلثومي

كوكب الشرق


المبحر في عالم كوكب الشرق السيدة أم كلثوم سيدرك حتما أن ثمة أمر عجيب قد ميز الفترة الزمنية من عام 1930م وحتى عام 1945م، سيتذوق نوعا من الفن فرض نفسه على القلوب قبل المسامع، وبلا شك سيقع في غرام فن الآنسة بلا حول منه ولا قوة، فأنا من هؤلاء الذين فتنوا به ووقعوا في شباك حلاوته وجماله، ودون أن أدري وجدتني هائما متنقلا من طقطوقة لاخرى ومن دور لآخر ومن مونولوج لآخر متعطشا للمزيد والمزيد، وكيف لا وهي درة الفن التي سخرت الموسيقى بكل ما فيها لها فازداد الطرب جمالا بها.
بحلول العام 1930م كان صوت الآنسة قد اكتمل نضجة وبدأت بالفعل في وضع أولى قدميها على سلم المجد، ليس الفني فحسب بل الاجتماعي أيضا، في تلك المرحلة برز عدد من الأشخاص في حياة أم كلثوم لعب كل منهم دورا هاما في رحلة صعودها سواء على المستوى الفني أو المستوى الإجتماعي.
فعلى مستوى الإرشاد الثقافي لعب المرحوم الأستاذ أحمد رامي دورا هاما وفعالا فتولى تثقيفها وتفرغ للكتابة لها سواء بالفصحى أو العامية، وعلى المستوى الاجتماعي فقد برز دور الشيخ مصطفي عبد الرازق (شيخ الأزهر سابقا)، فعندما أتت أم كلثوم من الريف لم تكن لتتأقلم سريعا مع أضواء تلك المدينة الواسعة القادرة وهنا يأتي دور المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي تولى نقلها من حيث الشكل ومصادرالمعرفة والتبصير بالمدنية وأهميتها فنقل لها خبرته وقدمها بالشكل الذي يليق بها ودافع عنها في كتاباته وتحمس لسماعها معتبرا ذلك جزءا من مشروع النهضة الاجتماعية والثقافية التي حلم بها.
أما على مستوى التلحين فيتسع المجال لكثير من السرد، فيمكن القول بأن تلك المرحلة هي أكثر مراحل حياة أم كلثوم خصوبة وغنى على مستوى الألحان وعلى مستوى النتاج الفني، فالثلاثينيات من حياة أم كلثوم بالتحديد صنفت على أنها الأكثر من ناحية النتاج الفني، ولعل ذلك يرجع إلى التطورات التي شهدتها حياة أم كلثوم في تلك الفترة.
ففي العام 1930م بدأت أم كلثوم التعاون مع المرحوم الأستاذ داوود حسني، فلحن لها قرابة الثلاثة عشر لحنا، على خلاف بين المؤرخين ولكن الثابت أنه لحن لها عشرة أدوار وطقطوقة واحدة، نذكر من أعمالهما سويا:
قلبي عرف معنى الأشواق (دور) 1930
روحي ورحك في امتزاج (دور)1931
كنت خالي (دور) 1931
كل ما يزداد رضا قلبك عليا (دور) 1931
جنة نعيمي (طقطوقة) 1931
ومن وجهة نظري ، فعلى الرغم من قلة عدد ألحان المرحوم داوود حسني للآنسة أم كلثوم، إلا أنه استطاع أن يخرج لنا من هذا الكنز ما لم يستطع غيره أن يخرجه، والعارف بحال أم كلثوم يعلم ذلك جيدا، فهناك بصمات اختص بها داوود مع الآنسة تستطيع التماسها بمجرد سماعك للقطعة الموسيقية، فعلى سبيل المثال دور (روحي وروحك في امتزاج) الذي لحّنه داوود من مقام الطرز الجديد( الطرزنوين)، هذا الدور بالتحديد أراه قد حاز نصف جمال فن الدور الذي قدم في القرن العشرين لاسيما مذهبه (قلبي يميل ليه للجمال) فهو أعظم مذهب سمعته في حياتي.
وهنا لابد أن أشير إلى نقطة غاية في الأهمية، أنا في الواقع لا ألتفت كثيرا لفكرة التصوير النغمي بمعناها الشائع، فلا يثبت عندي معنى بمقام محدد، فمقام الراست مثلا بطريقة يسعدني وبأخرى يبكيني وبثالثة يبعث السلطنة في قلبي وعقلي، أما ما أتبناه في هذه الناحية أن هناك مناخا ما يضفيه الملحن على لحنه( إجمالا) ليناسب المعاني التي كتبها الشاعر والعواطف التي تثيرها المادة المكتوبة، وهنا برع داوود، فما من لحن له إلا وصادف صميم المعنى المراد، يمكنك تصفية ذهنك والاستماع لدور (كنت خالي/ بياتي) لتدرك ذلك جيدا.
فبلا شك لعب داوود دورا هاما في تلك المرحلة أثر تأثيرا كبيرا في فن أم كلثوم، ولا عجب فداوود كان التلميذ النجيب للحامولي وعثمان، حتى أن عثمان كان لا يجد حرجا في المجاهرة بان داوود هو خليفته تقديرا لموهبته الفريدة.
وفي العام 1931م والتي أسميها دائما سنة الكرم والجود، بدأت الآنسة تعاونها مع شيخ الملحنين المرحوم زكريا أحمد ليصطحبها في رحلة دامت ثلاثة عقود قبل أن يتوفى زكريا عام 1961م، تخللتها 13 سنة قطيعة بسبب خلاف قضائي سنتحدث عنه في مقال آخر.
بدأ زكريا مشواره مع الآنسة بلحن طقطوقة ( اللي حبك يا هناه) وهي أول طقطوقة مطورة كما ذكرنا سابقا تبعتها أعمال كثيرة جملت ذلك الربيع الكلثومي واتسمت بطابع السلطنة الذي يبتغيه كل سميع اعتاد أن ينهل الطرب من مصدره نذكر منها:
هو ده يخلص من الله (دور) 1931م
جمالك ربنا يزيده (طقطوقة) 1931م
العزول فايق ورايق (طقطوقة) 1932م
إمتى الهوى يجي سوا (دور) 1936م
بكرة السفر (طقطوقة) 1939م
وقد تميزت ألحان المرحوم الشيخ زكريا أحمد بكونها الأكثر طربا وسلطنة على حد تعبير السميعة، ومن وجهة نظري  فذلك يرجع لكون الشيخ زكريا صييتا في الأصل، فقد بدأ حياته كمقرىء وانضم لبطانة العديد من مشايخ عصرة كالشيخ علي محمود والشيخ إسماعيل سكر رحمهما الله، فشرب صنعة القوالة قبل التلحين وبات منخرطا في هذا الفن انخراطا أهّله لصعود درج التلحين بثقل وبصمة خاصة به، فلم يكن ليلحن إلا لحن طابت له نفسه وامتزجت به مشاعره.
ولم يقف دور الشيخ زكريا عند حد الأدوار والطقاطيق القصيرة التي سجلت على الاسطوانات، بل تميز أيضا في تلحين المونولوج، حيث شكل مع الآنسة والمرحوم بيرم التونسي ثلاثيا قدم العديد من الأعمال التي خلدها الزمن، فبعد أن عاد بيرم من منفاه عام 1940م طلبت أم كلثوم من الشيخ زكريا أن يعرفها به فكان المكسب الكبير الذي حصل للفن في تلك المرحلة، ومن الأعمال التي انتجها هذا الثلاثي الرائع:
حلم، الأولة في الغرام، أنا في انتظارك، الآهات، حبيبي يسعد أوقاته، وغيرها.
واخيرا، تعرفت أم كلثوم عام 1936م على رفيق دربها ومصاحبها لنهاية عمرها المرحوم الأستاذ رياض السنباطي الذي حاز النصيب الأكثر من التلحين لها في رحلة دامت قرابة الأربعين عام، بدأها بلحن (النوم يداعب عيون حبيبي)، تبعته ألحان كثيرة تميزت ببنائها مكتمل الأركان، ولعل ذلك أهم ما ميز رياض السنباطي طوال مسيرته، فنستطيع أن نقول أن فكر السنباطي هو المميز الأول له، ليس فقط على مستوى جودة الألحان بل لأنه كان الأدرى والأكثر معرفة بحال أم كلثوم فقد قدم لها الألحان التي ناسبت مراحلها العمرية المتتالية، فما قدمه لها في ذروة قوتها وعنفوانها اختلف كثيرا عما قدمه لها فيما بعد مراعاة لأبعاد كثيرا كان البعد العمري أهمها.
ومن ألحان الأستاذ رياض السنباطي للسيدة أم كلثوم في تلك المرحلة:
هوى الغانيات (كيف مرت على هواك القلوب) وتلك القصيدة بالتحديد تأتي عندي على قمة الهرم الطربي الوجداني.
أتعجل العمر( حديث النفس)
مقادير من جفنيك
سلوا كؤوس الطلا
اذكريني
فاكر لما كنت جنبي
يا ليلة العيد
يا طول عذابي

عوامل غنى وخصوبة تلك المرحلة
أورد الدكتور فيكتور سحاب في كتابه عن أم كلثوم عدة عوامل كانت سببا في غنى وخصوبة ذلك الربيع الكلثومي أهمها:
1: أن صوت ام كلثوم شهد في تلك المرحلة أعظم أيام اتساع مساحاته بين القرار الادنى والجواب الأعلى على شيء من الحدة الصوتية التي تحولت تدريجيا إلى ليونه مهذبة
2: أن النصف الأول من تلك المرحلة شهد نشاطا هائلا في تسجيل الاسطوانات قبل توسيع الآنسة نشاطها على مستوى الحفلات الشهرية.
3: أن ثلاثة من فطاحل الملحنين قد وضعوا في تلك المرحلة خلاصة عبقريتهم وخبرتهم الموسيقية في التلحين لها وهم داود حسني والشيخ زكريا والقصبجي.
وختاما أقول أن من أراد أن يتعرف على أم كلثوم فعليه أن يقتحم غمار تلك المرحلة، عليه أن يبحر بين اسطوانات الثلاثينات ويفتش عن حفلاتها، فالكنز الكامن في تلك الفترة يستحق الكشف والتنقيب عنه بقوة، والفن النابع منها جدير بالإهتمام به والإنصات إليه.
دمتم في سعادة وسرور.






ما هو انطباعك؟
أحببته
3
أحزنني
0
أعجبني
2
أغضبني
1
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان