رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
4٬249   مشاهدة  

قصة قصيرة لأميرة حسن الدسوقي: ماهيندا.. أسطورة عن الحلم

قصة قصيرة لأميرة حسن الدسوقي: ماهيندا.. أسطورة عن الحلم


تحكي الأسطورة عن فتاة تُدعى «ماهيندا» تعيش بقرية صغيرة على أطراف مدينة الحلم، تلك المدينة التي انفصلت عن العالم منذ الأزل ليعيش كل أهلها في حلم طويل اعطاه لهم حاكمهم، واتاح لهم أن ينفصلوا عن قسوة الواقع واعطى كل منهم إختيار الخلود في الحلم فقط.

لم يسأل أي مواطن في المدينة عن الثمن الذي اخذه الحاكم في المقابل أو عن الثمن الذين دفعوه هم، ساروا هائمين على وجههم كل منهم يعيش الحلم الخالص في خياله فيما يغطي جسده عفن الواقع، اتسعت حدقاتهم وتحولت الي اللون الاحمر القاتم الذي حجب عنهم تفاصيل واقعهم؛ فعاشت روحهم سعيدة منفصلة عن جسدهم الفاني.

ولكن «ماهيندا» ولدَت مختلفة\معاقة، فقد كانت عايناها حمرواتان خاليتان من الحياة، ولكن تلك العين الثالثة التي نبتت لها وهي في رحم أمها و استقرت في قمة رأسها كانت عاهتها، ودت أن تسير هائمة مثل أهلها في الدوائر المقدسة التي خلقتها المدينة لتشعر انها واحدة منهم، لتشعر بالدفء والسعادة.

تمنت أن تغوص في الحلم مثلهم ولكن الحلم يصبح أصعب عندما ترى !

توقف نمو «ماهيندا» عند مرحلة الزحف لم تقدر أن تقف على قدميها فكلما وقفت ترى صفحة فارغة لا يوجد بها سوى بقع بيضاء سريالية، فكانت تخفض رأسها دائماً حتى تستطيع أن توجه حدقتها الوحيدة لترى قومها .

تكبر\تزحف\ تجوب ويتأقلم جسدها على الزحف أكثر وأكثر تسير على أربع بمهارة قرد صغير يوجه قمة رأسه للأمام، ينسدل شعرها ويغطي وجهها وبقيته سارح للوراء ليفسح مجال الرؤية لعينها الوحيدة.

ترى قومها كما لم يروا انفسهم، ترى هذا الشخص يتلوى في بركة من الوحل من متعة متخيلة، وترى السيدة العجوز طاعنة السن تسير بخيلاء فيما تراه من جمال جسدها بعين الخيال، وتراهم يضاجعون بعضهم في الخلاء ثم يرحل كل منهم في طريق لا يتذكر ملمس الجسد الذي القى رغبته عليه.

ترى نساء ببطون منتفخة تتلوى على قارعة الطريق و يخرج طفل من بين قدميها فتتركه و ترحل غير مدركة وجوده.

تزحف «ماهيندا» بين اقدامهم ولا يشعرون بها ولا يعلموا عنها شيء بينما تعلم هي حقيقتهم، لا تدري من فيهم المحظوظ: هي لأنها تعرف الحقيقة، أم هم الهائمين في جنة الحلم المزيف؟

لحظات كثيرة مرت عليها استجدت السماء أن تكون واحدة منهم، حاولت إغلاق عينها لتقف و تسير مثلهم ولكن قدماها لم تطاوعها بعد تلك الأعوام من الزحف، واغلاق عينها كثيراً دون الوصول للحلم؛ جعلها فريسة لأقدامهم غير المكترثة التي عبرت من فوقها مرات و داستها مرات آخرى.

 

********

 

أعوام كثيرة و اقداماً أكثر ووحدة أكبر من صفحة السماء الخالية من الدليل.

مع من عليها أن تتحدث!  لمن عليها أن تلجأ! وإلي أين يمكن أن تذهب !

الإختلاف خطئية صاحبه إذا كان من اختياره، ولكن خطيئة من إذا كان ولد به؟

أسودت الحياة في عين «ماهيندا»، و انكوى قلبها من حنين الى قوم تكره رائحة أجسادهم التي نسوها في رحلة الوهم .ارهقها الشوق إلى أنيس تشاركه روحها، اصابها الجنون و ظلت تلقي بجسدها عليهم واحد تلو الاخر تلو الاخرى، تتمسح في أرجلهم و تتشبث بها فينفضوها بعيداً وكأن قرصهم ثعبان، تكتم انفاسها وتحاول ان تقبل افواة كريهة، ولكنهم يغلقونها في وجهها و يسيروا بعيون خالية من الحياة يعانقون فراغاً صوره لهم الحلم جنة.

رفضت «ماهيندا» رفضهم لها، ظلت تركض على أربع مبتعدة عنهم، تشق بنظرها الأفق البعيد باحثه عن مهرب، و لكنها في النهاية وجدت نفسها فوق جبل على أطراف المدينة، تكاد تصل قمته إلى السماء، مدت قمة رأسها من حافته فلم ترى عينها الأرض من شدة ارتفاعه، نظرت ورائها، نظرت للسماء، ثم اذرفت دمعة واحدة وقفزت.

ظلت تسقط أعواماً وأجيال، وكأنها قفزت في ثقب زمني لا ينتهي، اختفى صوتها بعد اعوماً من الصراخ، وشاخ قلبها في انتظار الارتطام، وفقدت بصرها الذي كان علتها.

لم تنم! ولم تلمس اقدامها الاربع ارضاً، وكان السقوط وحده هو رفيقها منذ أن قفزت من الجبل، حتى تلقفتها الأرض في هذا اليوم. لم يكن ارتطام بل كان هبوط و كأنها معلقة بـ«براشوت».

ضمت الارض بذراعيها وارجلها. قبلتها وروت بوارها بدموع عينها الكفيفة الحزينة .تقافزت على الأرض من الفرحة و لكنها اصطدمت أكثر من مرة بالصخور، في تلك اللحظة أكتشفت انها انهت معاناة لتخوض معاناة آخرى، نعم هي الآن كفيفة كباق قومها. ولكنها ليست موصومة بلعنة الحلم الواحد فلن نستطيع أن تنضم لقطيعهم.

 

اكتشفت انها عادت الى المعاناة الأولى بوضع اسوأ؛ فالعودة الي المدينة الآن تعني انتظار الموت في أي لحظة. او انتظار الاقدام لتسير فوقها لتدهسها حتى الموت ايضاً، ستكون مجرد كفيفة البصر التى  تهرب من مكفوفين الروح ومعلولين الجسد.

 

اختارت «ماهيندا» أن تختلي بنفسها أسفل الجبل، تحتمي بقمته الشاهقة من خراب المدينة. في تلك الايام القليلة عاشت «ماهيندا» في سلام، صارعت الظلام و صارعها حتى اعتاده و آلفته بل و ارتاحت له نفسها ، وكلما افتقدت البصر تذكرت وجوه أهل مدينتها الموحلة بالطين و الدم، المبتسمة غير الواعية بواقعهم الحقيقي؛ فتأخذ الظلام في احضانها و تنام.

 

وفي الليلة اهتزت الأرض هزة قوية نفضت «ماهيندا» من نومها و صمت أذنها ضجة صاخبة يأتي صوتها من أعلى و كأن هناك من يدحرج صخور بحجم الجبل في السماء، وظل جسدها ينتفض خوفاً من المجهول وبكت كثيراً حتى ابتلت خصلات شعرها و التصقت برأسها، اختبئت حاضنة صخور الجبل تحتمي بها؛ حتى انشقت السماء، وامطرت الأحلام كلها!

ليست ملايين الأحلام و لا بلايين الأحلام بل الأحلام كلها، الحلم قبل أن يصل الي الارض ينبثق منه مليون حلم آخر، وينبثق من كل حلم  من ملايين آخرى، إلى ما لا نهاية!

 

كانت الأحلام تغرد ألحان رائعة و تبدر الارض برائحة السلام، وحين لامست اذن «ماهيندا» ارسلت الى روحها السكينة، ودون وعي خرجت «ماهيندا» من مخبئها فهبطت فوقها الاحلام جميعاً، أعتطها الف عين على الف حياة. جثت ماهيندا على ركبتيها ورفعت ذراعيها الي السماء تأخذ الاحلام في حضنها، وتبكي روحها فرحاً لما رأته من جمال وحب و الوان، ليس هناك حلم يشبه الاخر، ليس هناك حلم أقل روعة من أخيه ،كلها أحلام طاهرة من نجاسة الواقع.

حملتها الأحلام و طارت بها الى قمة الجبل، لم تشعر انها اخف! لم تشعر انها اسعد!

في تلك اللحظة؛ عاشت ماهيندا الى الأبد وسكنت روحها حيث عانقت حلم بعينه و اختارته يكون حلمها.

إقرأ أيضا
أمريكا

وظلت كل يوم تقفز من فوق الجبل ليلاً. حاملة حقيبة على ظهرها تعبئها احلاماً و تطير الى قمة الجبل، تضع فوق رؤوس أهل مدينتها أحلاماً تليق بهم.. احلاماً غير الحلم الطويل الممل الذي صنعه لهم ولي مدينتهم، فهي تعرفهم جميعاً و لكنهم لا يعرفونها .ظلت تقوم بذلك كل ليلة و قد دبت في عروقها الحياة.

 

تحمل الحقيبة على ظهرها و تركض على أربع توزع الاحلام فوق الرؤوس، أثنان و اربعون ليلة و لم تمل.

وحين تتسلل صباحاً وتجدهم كما هم لم يتغير بهم شيء، تعود ليلاً مرة اخرى  تبدل الاحلام بأحلام آخرى، اثنان و اربعون ليلة دون يأس منها.

 

و لكن في ليلة كانت تحمل حقيبتها و تتسلل إلى المدينة وجدت الحاكم في إنتظارها. كانت تراه للمرة الأولى عيناه سليمة. لم يبع روحه للحلم الواحد كما اقنع اهل قريته، رأته بروحها ورأت شروره. رأت نيته في قتلها و لكنها لم تكترث، وكانت وقفتها على ارجلها الاربع اكثر شموخاً من وقفته وسط حراسه، تحمل على ظهرها حقيبة الأحلام، تشد قبضتها عليها تخشى عليها اكثر من نفسها.

 

و قبل أن يضرم الحاكم النار في «ماهيندا» و في حقيبتها؛ جاء هو من هناك يركض تجاه «ماهيندا» ليحميها، و افرغ غضبه الذي تحول الى جنون في الحاكم وحارسيه، الدهشة كانت سلاحه الوحيد و المفاجأة حليفه الأول؛ فلم يكن يعلم الحاكم ان هناك وليداً للحلم.

يقف الآن  الوليد الاول فوق جثة الحاكم ينظر إلى «ماهيندا» وفوق رأسه ينام الحلم كقط أليف.

مرت «ماهيندا» من جواره و هي ترى للمرة الاولى الابتسامة على وجة أحد من قومها. فشدت الخطى توزع المزيد من الاحلام فوق الرؤوس دون يأس,

فحلم ماهندا كان صناعة الأحلام الأحلام للآخرين، وتقول الاسطورة أن روح «ماهيندا» تجوب بجوار فراشنا ليلاً كل يوم توزع الاحلام بالعدل فحينما تأتي «ماهيندا» اليك؛ سلم لها روحك لتعطيك حلم يليق بك .

اقرأ أيضا

جزء من رواية الكالورمي – أميرة حسن الدسوقي- دار ميريت للنشر- معرض الكتاب 2020






ما هو انطباعك؟
أحببته
3
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان