رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
188   مشاهدة  

أبو السعود .. الرجل الذي اراد أن ينسى

أبو السعود


أبو السعود عرفته  نحيلا جدا ،

ابيض الشعر في نهاية الاربعينات من عمره ، لكن من يراه  يظن انه  في الستين !!

تشعر بالمرارة الساخرة تغطي  كلماته

حياته عباره عن كدح  وتعب وبؤس ،

ككل العمال المصريين  في ليبيا

  كان خبازا بالفرن القريب من بيتنا , الذي كنا نتردد عليه  انا واخوتي  بشكل  شبه  يومي ودائم !

كان من الطبيعي  ان يتعرف على والدي لانه الساعاتي  الوحيد  في  المدينة الصغيرة التي نقطنها …

ولان اغلب ساعات ( ابو السعود)  تشبهه شكلا  ومضمونا ..!

فكانت متواضعة

تتحمل فوق طاقتها لتتعطل سريعا

لم يستطع  ان يشتري يوما ساعة من النوع الجيد المقاوم للماء او للصدمات …

فكانت اغلب زياراته  الى محلنا لتغيير بطارية احدى ساعاته  او لتحديد مصيرها  ،

وغالبا ما  كان يجيبه  ابي اجابه  تشبه  اجابة الاطباء الامريكيين  عندما  يتلذذون  في صدم  مرضاهم ….

   كان  ينصحه  بان  يرمي كل  ساعاته  في القمامة ويشتري غيرها من  النوع  الجيد

فيرد المسكين : الله  كريم

ويرحل  …..

……………………

لديه  خمسة اولاد

حينما يسيرون  ورائه  يذكرونك  بمشهد  صغار البط

في كل مساء ياخذهم  الى الدكانة التي بجانب محلنا ليشتري لهم  الحلوى

كان  يروق لي مشهدهم فالفرق  بين  كل  واحد  منهم  سنة او بالاكثر سنتين  واصغرهم  عمره  تقريبا سنتين واكبرهم  لا يتعدي التاسعة

اشقياء نعم …

ولكن شقاوتهم  ،  ليست  من النوع التي تجعلك  تنسى  صغر سنهم

اما هو فكان ينهض  في الخامسة صباحا نشيطا ليصلي …

و يشرب كوبا من الشاي وسيجارتين

ويذهب بعدها الى عمله المرهق  في العجن  والقطع  و …و ……. الخ

ثم يعود  في الثامنة مساءا

منهك  القوى 

يتامل اطفاله  الذي يكبرون  في ظل هذا الفقر المدقع

وهذه الظروف المعيشية الذاهبة الى الاسوا …

كان كثير الشرود … ولم  اكن يوما لاقف عند  شروده

لم يكن  يعنيني  من قبل، ان  ارى انسانا يشرد

ربما لاني لم اكن ادرك حينها ان وراء  كل شرودٍ

قصة تستحق التامل

في احد  المرات  وفي ليل  خريفي بارد

اتى الى محلنا ولم  يكن هناك  احد  سواي

كانت الساعة  قد جاوزت الثامنة والنصف ليلا

وكان والدي قد سبقني الى البيت  وطلب  مني ان الحقه وقتما اشاء على ان لا اتاخر كثيرا

  وفي اللحظة التي  كنت انوي فيها الذهاب  وأُهم  باغلاق المحل

اتى  ابو السعود

   عائدا من المخبز

لاحظت ذلك من ثيابه الغارقة في الطحين وبقايا العجين

وقف  لبرهة امام  الفاترينه الزجاجية

  ونظر نظرة طويلة الى غيتاري الذي كنت كثيرا ما اخذه معي  الى  المحل (( في تلك الفترة كنت قد بدات تعلم  العزف على  الغيتار  ))

  بشرود اشعل سيجارة  قائلا  بدون ان  ينظر  الي

:-اريد  ان  استعير هذا العود

اجبته : هذا ليس عودا انه  غيتار

اجابني :- فاليكن ما يكون اريد  ان اعزف عليه …اريدك  ان تعيرني اياه !!!

تفاجات به  وبطلبه  الغير  متوقع اطلاقا  … فقلت  له  وبتلقائية

  اعذرني لا يمكن ان اعيرك اياه لاني اعرف شقاوة اولادك  واعرف مصير غيتاري  في ظل شقاوتهم  ..

قال لي باصرار وعينياه معلقتان على غيتاري  :

– ولكني اريد  ان اعزف

اجبته  بشيء من الفظاظة : يمكنك ان تعجن  اعتقد  ان  ذلك   مفيد  لك  اكثر

هنا  نظر لي او بالاحرى نظر عبري

وقال شاردا:  اريد  ان  انسى .

اريد ان اعزف  ….

  يقولون  ان العزف  قد  ينسي …. وان اريد  ان  انسى كل شيء

سنوات عمري

  شقائي

ان انسى  زوجتي واولادي

ان انسى اجار بيتي

ان انسى موسم المدارس

  ان انسى روتيني اليومي  القاتل

((عاوز انسى يا بنييييييي))

  اجبته  بشيء من الخوف   بعد ان فاجاتني  كلماته الثائرة  : رجاءا لايمكنني ان اعيرك  اياه  فلا تحاول يا سيدي

والان  اريد  ان اغلق المحل  واذهب، فلا تؤخرني ارجوك ..!!

نظر  للغيتار الموضوع على الكرسي نظرة طويلة حزينة 

وادار ظهره  وسلم  ومضى  ..

اغلقت المحل  وذهبت

بعد  يومين

  كان والدي  عائدا  من  عمله  مساءا،

فيما كنت انا العب الشطرنج  مع اخي 

عندما  فوجئت  بوالدي يهمس في اذني

    :- هل  يمكن  ان تعير غيتارك الى ابو السعود …

  هنا  صعد الدم  الى راسي وقلت له  :-لا اعرف ما الذي يدون  براس  هذا ( الاهبل ) واخر شيء اتوقعه  هو ان تطلب مني  ان  اعيره  غيتاري

انت تعرف كم هو غالي علي ، اولا   لانه  هدية  ، وثانيا  لانه  غالي الثمن وانا لا اتخيل نفسي  امامه  ابكي على وتر مقطوع او مفتاح مكسور  او خدش 

نظر الي والدي ، وبنبرة بطيئة  قال

-: اذا افهم  من ذلك  انك  لا تريد اعارته اياه

قلت له

– نعم  والف  نعم

  قال لي وهو يستدير ذاهبا :

– براحتك  اتمنى ان يقتنع 

– هذا شانه  وحده …..

***

مضى يوم  اخر

وتكرر المشهد  مرتين

ولكن المرة الاخيرة تكلم معي  والدي بنبرة قاسية

وقال لي :((انت لا تريد  ان تعيره  الغيتار وانا هذه المرة لا اطلب  منك السماح له ، بل امرك  ان  تعيره  غيتارك )) ونظر لي نظرة طويلة  بعدها.

فكرت قليلا بالامر

الخيارات  هنا اصبحت  محدودة

انا ولد  مطيع  ولا يمكن  ان  اعصي  والدي في نقطة كهذه ، خاصة  انه  تكلم  هذه المرة من المبدا  ( الكتائبي ) الشهير

(( مالنا  لنا …. وما لهم  لهم  ولنا ))

  الغيتار لي – ولكن  بما اني تحت وصاية والدي فيعني ذلك  ان  الغيتار له ايضا …   وعليه ، لا يمكنني  اتخاذ قرار خارج  سلطة القرار ان في ذلك  خطا استراتيجي  كبير

لذلك…….((الله  غالب)))

  ساضطر لتقديم بعض التازلات وان كانت باهظة الثمن

قمت واحضرت  الغيتار  من غرفتي

واعطيته  لابي

لاعنا ابو السعود وساعته…. ناعتا اياه  بـ ((ابو القرود))….. ونعوت اخرى

اخذ ابي الغيتار بهدوء…

كانت الساعة  متاخرة ليلا

لكنه  لبس ثيابه  وذهب الى بيت ابو السعود  ليعطيه الغيتار

تاخر والدي..

.ومضت  نصف ساعة ..

..ساعة ….ساعتين

ثم  عاد

ولكن  معه  الغيتار ..!!؟

قال لي بلهجة بطيئة وبنبرات هادئة وهو يمد  لي الغيتار :-

خذ غيتارك  يا بني  فلن  يحتاجه ابو السعود  بعد  الان

نظرت له  وابتسمت  لكني رايت دمعا يترقرق في عين والدي …

فتجمدت  ابتسامتي عندها…

خصوصا عندما استطرد

  لان الدفن غدا بعد  صلاة الظهر…!

وتركنى واقفا مع غيتاري  في ذهول

مات ابو السعود  بسكته قلبية مفاجئة

بعدما ان بخلت عليه الحياة بحق النسيان

عثرو بين بقايا اغراضه  على رسومات كان يرسمها بقلم ٍ رصاص اثناء فترات الاستراحة بالمخبز

كان يحب رسم  اسراب الحمام كثيرا

ورسم  نجوما قربها

ايضا  كان يرسم  نفسه

محاطا بعلامات الاستفهام

حتى حلمه  بالعزف

!!  كان يرسمه

ولم  يعطه القدر فرصة…… ليعزف !!

العزف كانت اخر احلامه المصادرة…

التي حلمها قبل ان يغادر

بكيت كثيرا

كان الشعور بالذنب يقتلني  وياكلني

ولم انام بعدها ايام

زرت  قبره  كذا مرة وحيدا

كان يلفتني منظر الحمام  الذي يحط على قبره  دون كل القبور

هل كان يدعوه  للحلم مجددا

هل تحققت امنيته وتحول الى حمام يحلق نحو النجوم

كما حلم  ورسم

هل نسى فعلا ؟؟

هذا هو ابو السعود الذي حلم يوما ولم يكمل حلمه  تاركا وراءه  تعاسة الدنيا كلها وعائلة كبيرة  تكفل  بها الجيران ومنهم والدي بمصاريفهم ، واعطاءالصدقات لهم كل سنه خاصة في شهر رمضان

امس وعبر الايميل ، اخبرني اخي في ليبيا ،ان ابنه الكبير اصبح  في الجامعة وانه  يريد  ان يتعلم  العزف على الغيتار ويريد  ان يستعير ذات الغيتار الذي طلبه والده يوما منى ، بدون ان يعرف 

  فما رايكم بالقدر..!!

وهل اسمح  لاخي  بان  يعيره  اياه  ؟؟؟؟

انتظر جوابكم …..

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
2
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان