همتك نعدل الكفة
1٬369   مشاهدة  

أعظم حلة محشي كرنب في التاريخ

محشي
  • كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



في ١٥ ديسمبر ١٩٩٢، كنت قد بلغت التاسعة عشر عاما من العمر قبل ثلاثة أيام طالبا في الكلية الحربية في السنة الثانية يخوض غمار فرقة الصاعقة الراقية بصحبة دفعته في الكلية، كان بالتحديد يوم التجديف، بلا نوم تنقلنا العربات من أنشاص بالشرقية إلى كورنيش النيل بعيدا بالقرب من حلون، نقضي الليلة بلا نوم في نفخ وتجهيز المراكب الزودياك التي شاهدتموها أثناء العبور في كل الأفلام التي دارت حول العبور العظيم، كان للقوارب التي نستخدمها العمر ذاته تقريبا.

ومع أذان الفجر ننزل في عرض النهر لنقود القوارب تجاه شبرا لنكمل الرحلة تجاه أنشاص في ترعة الإسماعيلية.

٢٠ طالبا بصحبة عريف حديث التخرج من مدرسة الصاعقة، نكتشف بعد ساعة غرق كل الأطعمة القليلة التي اصطحبناها معنا في تلك الليلة الباردة في منتصف ديسمبر، القارب به العديد من الثقوب، نفرغ أحدنا لينزح الماء من القارب، نتابع فنادق وأوتيلات الكورنيش وأولئك السهارى ليلا على كل الكباري التي مررنا تحتها ونحن نحاول تشجيع بعضنا البعض بالهتاف المتواصل “هيلا هوب”، نصل شبرا في التاسعة صباحا متأخرين حوالي ساعتين بسبب أننا علقنا في غابة من ورد النيل اعتقلتنا في قلب النهر.

نحمل القارب الثقيل جريا لننقله لترعة الإسماعيلية لتعويض الوقت الناقص، تهطل الأمطار بشدة ويبدأ التعب والإجهاد في غزو الأجساد الشابة المستيقظة منذ ٤٨ ساعة، تبذل مجهودا بالتجديف ضد التيار في النهر ثم أقل مجهودا مع التيار في الترعة.

يسقط أحدنا نائما في الماء، بينما يقفز أخر ليقضي حاجته، ونضطر جميعا لنزول الماء عند كل كوبري مشاة على الترعة لا يسمح بمرور القارب، تبتل الملابس ويقترب المغرب مع نسمات شديدة البرودة، نتابع الفلاحات اللاتي يغسلن في النهر في وهن، يقتل الجوع جوف الجميع ويقهرنا، تبدأ الرعشة في الانتقال من واحد لأخر، نستقبل عدة حبات من اليوسفي ألقاها لنا فلاح كريم بسعادة بالغة.

تغيب الشمس قبل أن نصل، وتنخفض درجة الحرارة بشكل ملحوظ، نكون قد فقدنا أحذيتنا “الباتا” المسموح بركوب القارب بها بعيدا عن البيادة في طين ترعة الإسماعيلية، تمر سيارة لتطالب الجميع باخراج القوارب على جانب النهر وتفريغه من الهواء.

نغوص مرة أخرى في الترعة لندفع القارب خارج الترعة ونبدأ في تفريغه بينما نلتصق ببعضنا البعض بحثا عن دفء الأجساد وسط البرد الشديد، يكتشف أحدنا كومة كبيرة من القش ثم تمر سيارة مدرسة الصاعقة ليأمرنا المعلم بتحميل القارب وينصرف دون أن يحمل أحد من الحفاة الـ٢٠ معه، مطالبا إيانا بالعودة مشيا إلى مدرسة الصاعقة في أنشاص.

نشعل النيران في القش ببعض الولاعات ونبدأ في المرور عبر الكومة حالمين بأن تجف الأفرولات فقط حتى لا يقتلنا البرد وفجأة يظهر صاحب الأرض، ذلك الفلاح المصري الأصيل الذي يقطن في أطراف أبو زعبل

يسألنا من نكون نخبره بأننا طلبة الكلية الحربية، الفدائيون الذين يخوضون فرقة الصاعقة الراقية، يختفي الرجل ٥ دقائق ليخرج ممكسكا بحلة كبيرة للغاية مليئة بمحشي الكرنب الساخن، يقترب مطالبا إيانا بتناول الزاد محاولا وضع الحلة على الأرض لكنها تصل الأرض فارغة بعدما اقتحمتها ٢٠ يدا ألقت في .الأفواه حبات المحشي الأروع

لم تكن مجرد “صوابع محشي” بل أصابع أمهات حنية تربت على أرواحنا لتهديء من قسوة اليوم.

إقرأ أيضا
تاريخ المعسل في مصر

يختفي الرجل ليعود بحلة ثانية، فتنال نفس مصير حلة المحشي الأولى فيحضر لنا فطيرا مع الكثير من العسل الأسود.

تجف الأفرولات وتمتلا الأجواف بالمحشي الرائع والفطير والعسل، نشكر الرجل ونغادره شاعرين بالامتنان العظيم للكرم الفلاحي في رحلة من أطراف مركز أبو زعبل حتى أنشاص قبل ٢٨ عاما دون أن ينسى واحد من العشرين طالبا الذين صاروا ضباطا طعم ذلك المحشي الذي تناوله في ليلة ١٥ ديسمبر عام ١٩٩٢ من بيت فلاح مصري كريم.

الكاتب

  • محشي أسامة الشاذلي

    كاتب صحفي وروائي مصري، كتب ٧ روايات وشارك في تأسيس عدة مواقع متخصصة معنية بالفن والمنوعات منها السينما وكسرة والمولد والميزان

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
15
أحزنني
0
أعجبني
8
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان