أغنيات من الذاكرة : الشاطر حسن .. ملحمة هشام نور الخاصة
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
في حياة كل مطرب أغنية تعتبر ملحمة غنائية خاصة، صنعت خصيصًا لتكتب في زاوية منفصلة في تاريخه الفني بعيدًا عن بقية أغانيه، في الغالب لا تساير موجات غنائية سائدة ولا تغازل جمهورًا بعينه، لكنها صنعت لتعيش طويلًا في ذاكرة المستمع، تتمتع بجودة فنية عالية من ناحية التدقيق في اختيار موضوعها وبنية لحنها وإخراجها الموسيقي، موضوعها عابر للأزمان يناسب كل عصر وكل جيل تصلح لأن تسمعها في أي وقت وفي أي زمان، وصل بها المطرب إلي ذروة أدائه الغنائي.
لو تتبعنا مسيرة المطرب هشام نور سنجد العديد من تلك النوعية من الأغاني منها مثلًا أغاني توعديني و ايه المفروض وهقولك ايه، لكن تظل أغنية الشاطر حسن هي ملحمته الغنائية الخاصة، و أقوى أغنية في مسيرته الفنية على الإطلاق ولايقف الأمر عند هذا الحد لو قررنا أن نضع قائمة موضوعية بأفضل أغاني عقد التسعينات لدخلت أغنية الشاطر حسن تلك القائمة عن استحقاق.
الأغنية صدرت في ألبوم هشام نور الثاني “فرحيني” والذي شهد بداية انطلاقه مع شركة إنتاج أخري هي “لايت ساوند” والتي تحمس صاحبها لخوض تجربة الإنتاج استنادًا للنجاح الضخم الذي حققته مجموعة هشام الأولي “مش عارف”.
في هذا الألبوم نلمح اختيارات ناضجة جدًا مع تنوع كبير في الأشكال الموسيقية ومواضيع الأغاني، في محاولة جيدة للجمع بين تجارب جيل الوسط وبين جيل الأغنية الشبابية، وأن عاب الألبوم هو عدم وجود أغنية تمثل عامل جذب للجمهور مثلما حدث مع “مش عارف” ولم يشفع له تصوير أغنية “ماليش قلبين” رغم أنها تعتبر أغنية الـ Hit للألبوم.
الكلمات:
كتب الأغنية الشاعر عوض بدوي أحد رموز جيل الوسط في شعر الأغنية المصرية، هذا الجيل الذي حمل على عاتقه تطوير الأغنية المصرية وتحريرها من فلك مفرداتها ومضامينها التقليدية.
في تلك الأغنية اختار عوض بدوي عنوان خادعًا جدًا لفت به الأنتباه، فهو لن يعيد على اسماعنا حكاية الشاطر حسن وست الحسن والجمال، بل يأخذنا في رحلة مع بطل نقيض للشاطر حسن، بطلنا واقعي يحمل بقايا فارس في صوته وأغانيه، لا يدعي الفروسية ولا يملك معجزات خارقة وبالطبع لا سيف بتار ولا حصان أبيض، بل ليعلن لنا انتهاء زمن الفوارس والأحلام الوردية التي تحطمت على صخرة الواقع المرير.
يا ست الحسن مين قالك .. أنا شاطر حسن تاني ده أنا لا هقدر أوصل لك .. ولا هاخدك على حصاني ولا بسيفي هشق الكون .. وأطير بيكي لمملكتي أنا عاشق مانيش مجنون .. وست الحسن مش أنتي .. أنا أقدر أغنيلك وانغملك مواويلك .. وألف الكون بأشعاري .. وازرع فرحتي في ليلك.
مقدمة كاشفة جدًا تعكس واقعية البطل الذي لا يحمل سوى صوته وأغانيه التي قد لا تبني قصرًا فخمًا أو تجعله يظفر بست الحسن التي هي في الأصل ليست ست الحسن بل فتاة مقهورة مثله.
في الكوبليه الأول واصل عوض بدوي واقعيته بإعلانه انتهاء زمن الفوارس.
كان زمان غير الزمن ده .. فيه فوارس بجناحات .. يعملوا م الشمس وردة .. يقتلوا غول السكات.
الكوبليه الثاني هو الأهم في الأغنية كلها، حيث يواصل تأكيد فكرة أنه ليس الفارس المغوار ولن يكون، وعلى ست الحسن أن تتخلص من أحلامها في أن تلتقي فارس في هذا الزمن وعليها مواجهة الواقع الذي يؤكد أن الشاطر حسن ما هو إلا وهمًا في مخيلتها لن تلتقيه ابدًا لأنه ببساطة لم يعد موجودًا.
وعيشي في حلمك الأخضر .. يدوب الحلم أو يكبر .. هتصحي في يوم على شاطر .. يقول سامحيني مش هقدر.
اللحن:
الأغنية من ألحان الملحن الكبير الذي فقدناه مؤخرًا “أحمد الحجار” واستطاع بحنكة شديدة أن يعطينا لحنًا تعبيريًا يدلل به على إدراك مضمون الكلمة التي يلحنها، لحن الأغنية متعدد الأفكار، المقدمة على مقام النهاوند ببناء تصاعدي محكم وكأنه يحكي القصة من البداية ويغوص في أحداثها، ينتقل بعدها إلي مقام الصبا زمزمة الخالي من الربع تون في سينو الأغنية بداية من جملة “أنا اقدر أغنيلك” وهو ما أضفي طابعًا من الحزن والاَسى، وهو اختيار قد يراه البعض غير منطقيًا لأنه لم يناسب مضمون المفردات التي تبدو مفرحة، لكن على العكس تمامًا كان اختيار جيد وملائم تمامًا حيث عبرت تلك الجمل الحزينة جدًا عن الحقيقة التي تقول أن هذا هو كل ما في وسعه للأسف.
في الكوبليهات انتقل إلى فكرة جديدة في اللحن على نفس مقام النهاوند بنفس تكنيك جمل البداية في تسلسلها وتتابع الجمل فيها وقوة قفلات اللحن.
من ميزات الحجار الهامة امتلاكه السيطرة على أفكاره اللحنية فلا يترك نفسه أسيرًا للجملة اللحنية الجيدة والتي قد لا تتفق مع مضمون الكلمات مثل يفعل بعض الملحنين ، بل على العكس يكون حريص كل الحرص أن يصنع لكل كلمة جملة لحنية متطابقة ومنسجمة معها.
اقرا ايضًا
جديد بهاء سلطان … هل الأمر يستحق كل هذه الضجة؟
التوزيع الموسيقي:
على غلاف الألبوم كتب أن الأغنية من توزيع “محمد مصطفى” دون ذكر للموزع “يحيي الموجي” الذي كتب خطوط الوتريات في الأغنية، وهي سقطة معتادة كنا نراها كثيرًا في التسعينات، لكن تظهر الكيمياء بين الثنائى وان طغت شخصية محمد مصطفى أكثر ، حيث البدء بشكل تصاعدي والوصول إلي الذروة ثم الهبوط إلى نقطة الصفر مرة أخرى لتسليم الغناء.
تبدأ الأغنية بتسليمة بسيطة من اّلة التشيللو للوتريات التي تسارعت بشكل موتر لتسلم الغناء لاّهات هشام نور ثم يدخل الكيبورد بجملة الفاصل التي ستعيدها الوتريات مرة أخرى حتى بداية الغناء.
لم يختار محمد مصطفى جملة إيقاعية ثابتة طول الاغنية بل كان هناك تنويع ما بين الجمل وكأنه يدخلنا في عدة حالات مختلفة تسير وفق معاني الكلمات ثم اختيار جملة فاصل على مقام اللحن لكنها غير مستنسخة منه، وابدع يحيي الموجي في كتابة خطوط وتريات قوية جدًا، لم تكن مجرد حشو لجزء الهارموني بل لعبت دور البطولة في التوزيع حيث هي من بدأت وانتهت الأغنية.
وصل هشام نور إلي ذروة أدائه الغنائي في تلك الأغنية، هو كان يدرك من البداية أنه أمام أغنية ملحمية سوف تبقي وتعيش في ذاكرة المستمع فاستعد لها جيدًا، بداية من نزوله ضيفًا على الموزع محمد مصطفى في منزله القريب من الاستوديو في الهرم ليلة التسجيل، حتى لا يضطر إلى قطع مسافة كبيرة من منزله في مصر الجديدة، ثم دخوله إلى غرفة التسجيل وهو في قمة حماسه لأداء اللحن حتى أنه لم يجري عمليات احماء طويلة لصوته أو يقف أثناء التسجيل رغم تحذيرات مهندس الصوت خالد رؤوف له بأن يقف قليلًا ليلتقط أنفاسه قليلًا وفوق كل هذا احساسه القوي بكل جملة لحنية فكان بطل من أبطالها.
امتلك هشام نور مقومات كثيرة كانت لتجعله في مكانة أهم وأكبر مما حققه، لكن المشاكل الإنتاجية ومزاجيته كفنان وتغير سوق الموسيقى المصرية جعل تجربته تتوقف عند ألبوم “قلبك شجاع” الصادر سنة 2009، ووجد ضالته في عالم الكرتون والدوبلاج الذي انطلق فيه وحقق نجاحات كثيرة، لكن وعلى الرغم من قلة ألبوماته الرسمية إلا أن تجربته الغنائية كانت من أنضج تجارب الغناء المصري في التسعينات.
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال