
أكل أمك وحلاوة الطريق الإقليمي!

-
رشا الشامي
إعلامية حرة، أسست شبكة مراسلي المحافظات في أون تي في إبان ثورة ٢٥ يناير وشاركت في تأسيس وكالة أونا الإخبارية.. عملت كرئيس تحرير ومدير لموقع دوت مصر ثم رئيس لمجلس إدارة موقع المولد والميزان.. صاحبة بودكاست يوميات واحدة ست المهموم بالحرية وإعادة تغيير مفاهيم خاطئة
لما تبنت الحكومة الحالية وسابقتها سياسة إلغاء الدعم كان دفاعها الأول أن الشعب تعود التواكل وأن معارضة المواطنين القادرين منهم وغير القادرين ليس إلا بسبب ارتباطهم السلبي بالدولة والذي يشبه تعلق طفل بأمه رغم تجاوزه سن الرضاعة.
ولهذا الحديث وجاهته إذا اقتطع من سياقه العام الذي اضطر الحكومة للالتزام برفع الدعم كشرط من شروط صندوق النقد الدولي، ولكن إذا تأملنا المشهد سنجد أن الأم تتألم للفطام بقدر ما يتألم صغيرها وربما أكثر، وهذا هو حال الحكومة التي تريد أن يتحمل الشعب مسئولياته تجاه احتياجاته بينما تظل مثل الأم لا يصح محاسبتها ولا سؤالها عن أي تقصير، بل يشعرها ذلك بالإهانة وعدم التقدير ويؤلمها جحود الأبناء وعقوقهم.
لن أنسى يوما، كنت ضيفة في بيت إحدى صديقاتي كانت تقدم لي الطعام بفخر شديد تقول: ” انتي متعرفيش أكل ماما، دي أحسن واحدة تعمل رقاق باللحمة المفرومة”
انظر إلى والدة صديقتي التي تتكأ على الكرسي الوثير باعتزاز، تهز رأسها فيهتز جسدها الممتلئ نشوة وسعادة من حديث ابنتها فلا أجد بدا من التقاط الصحن من يد صديقتي، ومع أول قضمة أدرك أن طبقات الرقاق الداخلية لا تزال نيئة وأن حرارة الفرن كانت أعلى من اللازم فاحمرت الطبقات الخارجية للرقاق بينما ظل قلبه عجينا، ابتلع ما في فمي بينما تحدق بي صديقتي منتظرة تعليقا مني، أرمق والدتها بنظرة سريعة وأرى جسدها لا يزال يهتز زهوا وفخرا. فأرد بسرعة: “حلو اوي اوي يا طنط تسلم ايدك”. وهل كنت أملك غير ذلك!
أتناول صحني كاملا وأشعر بعدم راحة في معدتي، بينما تخبرني صديقتي مساء، أنها تعبت أيضا وتقول: رقاق ماما خطير محدش يستحمله!
وبينما تتزايد أعداد الضحايا في مصر بسبب حوادث الطرق تظل الحكومة تردد بفخر عن إنجازاتها في إنشاء شبكة طرق ربطت من خلالها المحافظات والمدن والأحياء بعضها ببعض ويسرت الوصول واختصرت المسافات بالمحاور وقللت من وطأة الزحام بالكباري، والحق أن هذا حدث فعلا بل أكثر من ذلك فلم يعد السفر إلى محافظات الدلتا أو الصعيد بالسيارة أمرا مستحيلا، ولقد رصدت ذلك في وثائقي “إشارتك خضرا” من إخراجي وإنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، ولقد تم عرضه عبر الفضائية المصرية مرات كثيرة، وأتحداك أن تشاهد الفيلم ولا تشعر بالفخر والسعادة، لقد صنعته بحب وصدق شديدين، وقمت فيه بتجربة حية في شوارع القاهرة الكبرى على مدار يومين، لكن المشكلة أن شبكة الطرق نجحت في ربط المناطق بعضها ببعض لكنها لم تأخذ سلامة المواطن وراحته ورفاهيته في الحسبان، لأن المواطن طفلها الذي لا تسعى لإرضائه بينما يستريح ضميرها كونها أمه التي أرضعته وهو إن غضب أو حاسبها يصبح عاقا جاحدا.
اليوم سقط تسع ضحايا وأصيب أحد عشر بالطريق الإقليمي بمحافظة المنوفية نتيجة حجر في الطريق ناتج عن الإصلاحات لم يجد سائق الميكروباص سبيلا لتفاديه غير بالاصطدام بميكروباص آخر قادم في الاتجاه المعاكس، وذلك بعد أقل من أسبوع من وفاة ١٩ فتاة دفعة واحدة من قرية كفر السنابسة التابعة لمركز منوف بمحافظة المنوفية، في حادث ميكروباص على الطريق نفسه، وبين الحادثين وقعت الحوادث يوميا، وإذا كان سائقي ميكروباصات مصر كلها متعاطون للمخدرات، فأنا لم أجرب المخدرات يوما ولا أعرف كيف هو شكل الحشيش، لكنني أعرف جيدا كيف هي حال الطرق في مصر، أقود سيارتي على الدائري الإقليمي نهارا فقط ويجب أن تكون السيارة بحال جيدة وخزان البنزين عمران، فلا خدمات علي هذا الطريق ولا يمكنك ليلا أن ترى كف يدك إلا عند محطة تحصيل الرسوم، تنهي الطريق وأنت تلفظ الشهادتين حامدا الله على نجاتك بجسد منهك وأعصاب محترقة.
اللافتات في الطرق بشكل عام باهتة وبلون واحد بحيث لا يمكنك تمييز لافتات الطريق عن لافتات المنحنيات عن لافتات التحذيرات، ومناطق الإصلاحات بلا تنبيه، وطبعا لا توجد لافتات للسرعة القصوى لرغبة في تضليلك أو سهوا لا أعلم،
المطبات مفاجأة وألوان خطوط الحارات باهتة أو ممسوحة بعد شهور قليلة من تخطيطها، هذا غير الحفر والنقر المباغتة والتكسير وآثار الحوادث والإصلاحات المتراكمة بعشوائية على جوانب الطريق، وإذا لم تكن لديك مهارة حفظ الطريق مثلي ووزعت نظرك بين طريقك المستقيم وبحثا عن الاتجاهات التي يجب أن تسلكها، فعليك أن تسير ببطئ مبالغ فيه يؤدي بحد ذاته إلى الحوادث، لكنه السبيل الوحيد لتوقفك على طريق سريع عند المفارق، لأنها المكان الوحيد الذي تُعلق فوقه اللوحات التي ترشدك لاتجاهك الذي تريده.
أصبح لدينا شبكة طرق تربط غرب مصر بشرقها وشمالها بجنوبها، لكن القيادة عبر غالبية هذه الطرق الجديدة تقصف عمر السائقين والمركبات في آن واحد، وتكلف الحكومة ملايين الجنيهات من جراء التعويضات والمعاشات وعوز الأسر التي تركها عائلها فجأة، ومن اختبر القيادة في دول أخرى سيجد القيادة في كثير من البلدان رحلة من المتعة والترفيه والاسترخاء، وسيعرف أن أمه مش أحسن أم في الدنيا، وحينها تكون الفاجعة.
خسارتنا كبيرة ومشتركة، ولا سبيل للخلاص غير بفطام الحكومة!
الكاتب
-
رشا الشامي
إعلامية حرة، أسست شبكة مراسلي المحافظات في أون تي في إبان ثورة ٢٥ يناير وشاركت في تأسيس وكالة أونا الإخبارية.. عملت كرئيس تحرير ومدير لموقع دوت مصر ثم رئيس لمجلس إدارة موقع المولد والميزان.. صاحبة بودكاست يوميات واحدة ست المهموم بالحرية وإعادة تغيير مفاهيم خاطئة
ما هو انطباعك؟







