همتك نعدل الكفة
362   مشاهدة  

الحياة من خلف الشاشة.. 6 أعوام من العزلة

ألم


الحقيقة أنها ليست يوميات، هو فقط يومًا واحدًا يتكرر بلا انقطاع، صغيرا حينما تعرفت على الإغريق وأساطيرهم، تفهمت طريقة عقاب بروميثيوس الرجل الذي يأكل الرخ كبده طوال النهار وفي المساء ينبت له كبد جديد، ألم مستمر بلا هوادة ألم جسدي في تكرار فعل أكل الكبد يوميا، وألم نفسي في انتظار اليوم التالي للعيش في نفس المعاناة.

 وفي المقابل لم أفهم وقتها عقاب سيزيف، يحمل الصخرة يوميا إلى قمة الجبل ويحاول أن ثبت على قمته فتدحرج من الناحية الأخرى وهكذا دواليك، وقتها كنت أرى أنه من الأجدر بالكتاب أن يستخدموا مصطلح عقاب بروميثيوسي بدلا من عقاب سيزيفي، ولكن أعوامًا قليلة بعد ذلك وأدركت أنه لم يتعذب أحد من بني الإغريق مثلما تعذب سيزيف.

عرفت هذا حينما اخترت العزلة- حقيقة الأمر العزلة لا يختارها أحد بل هي من تختار روادها- هي من البضائع القليلة التي تنتقي أصحابها، تعرف كيف تفتنهم وتحثهم على الدخول فيها، تلوح لهم في البداية بأزهار الهدوء والصفاء والبعد عن المشاكل والضجيج، اختيارات لا محدودة من الأفلام والكتب والأغاني والألعاب، وساعات لا تنتهي من الاسترخاء الجسماني، ولكن مثلما أعتقد دائما هناك ثمن لابد من دفعه لا محال

في عالم السحر لابد أن تدفع الثمن لتحصل على المعرفة أو الخدمة، وكالعادة الدفع مسبق، في محل الوجبات الجاهزة تدفع أولا ثم تستلم ما طلبته، في المطاعم تأكل ما تريد ثم عليك أن تدفع ثمنه، ربما هذا هو الفرق الجوهري بين العزلة والحياة، الحياة وجبات جاهزة مسبقة الدفع، بينما المطعم هو عزلتك-

وثمن العزلة معروف، الوحدة، ثم المرحلة الثانية والتي اذكرها منذ تلك الحصة في تلك المجموعة التي كنت أخذ معها درسًا خصوصيا في الثانوية العامة، الاغتراب، قضى الأستاذ ناصر صالح ساعات يشرح الفرق الجوهري بين الغربة والاغتراب، ولكنه لم يكن يدرك وقتها أنه يمكن تلخيص كل ما قال في جملة “الغربة أن يتغير المكان بينما الاغتراب أن تتغير أنت”

تغيرنا العزلة، فنتحول لأسماك زينة تتابع عالم البشر بذهول ولا مبالاة في الوقت نفسه، أسماك الزينة تدرك كل الإدراك أن البشر أضخم من أن يجلسوا في أحواض زجاجية وأنهم يفتقرون للخياشيم أيضًا، بلا اكتراث يتابعون شخص يدفع ثمن كل قراراته مقدمًا يخسر في البداية طمعًا في الربح.

أغنية التتر لبرنامج الكاميرا الخفية ” اللقطات اللي واخدينها كلها طبيعية، والأبطال أنا وأنت وهي” كم تحمل هذه الجملة من فلسفة عميقة إذا سمعها شخص منعزل مثلي، نعم أنا مشاهد الكاميرا الخفية الذي يعلم المقلب ولا يشارك فيه ولا يتأمر على الضيف، فقط ربما أضحك ساخرا من رد فعله أو من غباءه ولكنني لن أكون بطلا للحلقة-

تحاول الهرب من العزلة، فتكتشف أن الثمن لا تقدر على دفعه، أنت في منطقة معزولة تقتات على ما حولك، فتضطر للبقاء يومًا بعد أخر حتى ينقضي عام ثم أخر، وها أنا ابدأ عامي السابع في عزلتي، أشاهد البشر في الشارع ولا أشاركهم، أدور في دائرة مغلقة بشكل يومي، أعمل أعود للمنزل أدخن طوال الوقت، غاضب طوال الوقت، مرهق طوال الوقت، قد انتشى كل فترة، قد أقابل أصدقائي كل فترة، ولكنني أدرك كل الإدراك أننا حذفت من جدول أعمالهم اليومية في عامي الأول من العزلة.

أتابع الحياة من خلف 3 شاشات، اللاب توب، التلفاز، الموبايل، ومن خلف زجاج نظارتي الطبية، دائمًا أتابع العالم من خلف شيء ما، لا أحلم أن أكون في منتصفه، ولكني أدرك أن هناك منعزل أخر يمر بي في الشارع فينظر لي من خلف زجاجًا ما ويعتبرني أحد الفقرات في برنامج الكاميرا الخفية.

 تلك هي ميزة العزلة الحقيقية أنك لن تعرف أبدا من هم مثلك، فنحن كالدببة نعيش فرادى ولسنا ذئاب أو حملان نسير في قطعان، نحن معشر الدببة نعيش في كهوفنا، ندحرج صخرتنا كل يوم لتقع من الجانب الأخر، ننتظر ذلك اليوم الذي تتوقف فيه أذرعنا عن العمل، فنسقط بجوار الصخرة ليأتي من بعدنا دببة أخرون.

إقرأ أيضا
عمرو أمين

إقرأ أيضاً

بعد 4 سنوات من اللهو واللعب .. سياسات أردوغان الخارجية توقع بلاده في العزلة

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
2
أحزنني
2
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان