الخيال في القَصص الديني

الثنائي الشهير “الأعرابي” و”اليهودي”، دول أكتر إتنين في حياتي أول ما أسمع سيرتهم..
أتحسس عقلي. لإنهم من أشهر أبطال القَصص الخيالي في التراث الإسلامي.

دايمًا تلاقيهم مذكورين كده مُجهلين تماما، فالقارئ “المستمع سابقًا” مايقدرش يستدل عليهم بأي معلومة؛ لا سن.. ولا هيئة.. ولا تاريخ سابق ولا لاحق، شخوص بتظهر من العدم تحرك دراما الرواية التراثية ويرجعوا يغطسوا فالعدم تاني.

القَصص الخيالي

القَصص الخيالي في التراث الإسلامي/العربي كتير جدًا، وتحديد وهميتها مش محتاج أكتر من ربط معطيات التراث ده نفسه ببعضها، وعدم التعامل مع كل معطى بوصفه وحدة مستقلة بذاتها تعامل معاملة المُسَلَمة غير القابلة للنقاش أو التحليل، ولا حتى المقارنة بباقي زملاتها من المعطيات.

مثال 1:

من أشهر القصص الخيالية، بسند أصولي، قصة اليهودي اللي كان بيرمي القاذورات على باب بيت النبي بشكل يومي، فلما توقف عن الحكاية دي.. النبي سأل عليه، فعرف إن الراجل عيان طريح الفراش ومش قادر يُخرج، فما كان من النبي إلا إنه راح زاره في بيته يتطمن عليه، فبكى الرجل حتى تبللت مرتبته.. ودخل الإسلام لفوره.

دي قصة خيالية بالكامل، مافيش أي سند ليها من أي نوع، حتى لو كان سند ضعيف. مجرد رواية طايرة في الجو مافيش أي شخص أعلن مسؤوليته عنها. بس في نفس الوقت منتشرة انتشار كبير، وتقريبًا مافيش مواطن فينا إلا وسمعها من على منبر أو عبر ميكرفون أو في مقطع فيديو متداول.

القصة دي على قد إنتشارها على قد تناقضها مع باقي حصة الدين، ما يؤكد إن الإيمان الميتافيزيقي يعطل العقل عن العمل بشكل سليم.

أه النبي في مكة كان مغضوب عليه، بس يظل من عِّلية القوم، فماينفعش حد نكرة يهينه أو يتعدى عليه، وقصص تعذيب المسلمين الأوائل كلها تخص مُستعبدين وموالي، ماحدش منهم له عيلة أو عشيرة قوية، بالتالي يستحيل إن حد نكرة (الرواية ماذكرتش اسمه) يتجرأ على بيت من بيوت بنو هاشم بشكل يومي.

وبالأساس التاريخ العربي/الإسلامي بيقول إن النبي ماتعاملش مع اليهود إلا بعد الهجرة للمدينة، بالتالي ماكنش فيه مساحة إنه يتهان بالشكل ده، لإنه في المدينة كان في مركز قوة أجبر واحد زي عبد الله بن سلول، أحد سادة يثرب قبل الهجرة، إنه يخفي عداءه للنبي ويحاربه في السر وبالمكايد.. وأصبح لقبه رأس المنافقين.

مثال 2:

يليها في الشهرة قصة اليهودي اللي النبي مات ودرعه مرهون عنده، ودي بقى مدعومة بحديث وارد في الصحيحين (البخاري ومسلم)، بس في الواقع ماتقلش خيالية عن اختها اللي فاتت، وتعالوا نشوف إزاي.

حسب موقع الدرر السُنية فالحديث له صيغتين، وده عادي في التراث العربي/الإسلامي، اللي عرف التدوين في عصور متأخرة، بعد احتكاكه بالحضارات القايمة ع التدوين والتقعيد زي الفارسية والبيزنطية والمصرية، حتى إن حركة جمع الحديث نشطت بعد وفاة النبي بأكتر من قرن وشوية.

بس اللي مش عادي إن الموقع محدد صيغة بيقدمها لغير المتخصصين وصيغة تانية بيقدمها للمتخصصين، والتصنيف ده موجود في صلب الكهنوت الإسلامي، اللي بيقسم المسلمين إلى عوام وخواص.

هنا الرواية/الحديث حددتلنا مكان وزمان وقوع الحدث -ودي حاجة عظيمة- المدينة/يثرب وقت وفاة النبي، بالإضافة إلى تحديد نسب اليهودي.. (من “بني ظفر”). بناء على المطيات دي أقدر أقول عليها بكل ثقة رواية خيالية، لأن وقت وفاة النبي ماعدش فيه يهود جوه المدينة، ولا أساسًا النبي كان فقير محتاج يستلف من غيره.

أولًا.. وقت هجرة النبي كان فيه 3 قبائل يهودية مستقرة في يثرب/المدينة، بنو قُينقاع، بنو النضير، بنو قريظة، والترتيب ده هو ترتيب طردهم من المدينة/يثرب على إيد النبي.

بنو قُينقاع

سنة 2هـ، بعد موقعة بدر بوقت قصير. إنطردوا بسبب خناقة في السوق، تقول الرواية المنتشرة أن أمرأة مسلمة راحت تشتري حاجة من بياع يهودي في السوق.. فالراجل عمل فيها مقلب وربط لها طرف توبها في شئ ثابت، فلما جت تقوم عورتها إنكشفت.. فصرخت، هوب تدخل رجل مسلم وقتل التاجر اليهودي، فاتلم عليه شوية يهود في السوق وقتلوه.

بالشكل ده كده، لا فيه ذكر لمين هي الزبونة المسلمة ولا مين التاجر اليهودي ولا مين المسلم “البطل” اللي دافع عنها ودفع تمن ده حياته، المهم إن أخر الحدوتة كان بنو قُينقاع طُردوا من المدينة.

مصير بني قُينقاع

بعد ما المقاتلين المسلمين حاصروا بيوت بني قُينقاع قيمة أسبوعين، أضطر اليهود للاستسلام. وهنا تدخل عبد الله بن سلول، حليفهم المسلم/المنافق وأحد كبار يثرب/المدينة، ورفض أن يمسهم النبي بأي سوء.

فوافق النبي إنه يعفوا عنهم لكن مالهومش قُعاد في المدينة، وبالفعل تم تهجيرهم تحت إشراف عبادة بن الصامت، وبالفعل خرجوا من بيوتهم وسافروا إلى الشام وتمت مصادرة أموالهم وممتلكاتهم لصالح المسلمين كغنيمة حرب، ويقال أن بعضهم استقر في خيبر.

وبكده مافضلش من بني قُينقاع أي حد في المدينة/يثرب.

بنو النضير

سنة 4 هـ، بعد غزو أُحد بفترة مش كبيرة، طردهم النبي من المدينة/يثرب لسبب مُختلف عليه بين الرواة.

فيه رواية، منتشرة جدًا، بتقول إن النبي “راح بنفسه” يطلب منهم يشاركوا في دفع دِّية قتيلين من بني عامر قتلهم رجل مسلم اسمه عمرو بن أمية الضمري.

فأعلنوا موافقتهم وواعدوا النبي إنه يستناهم مكانه هنا وهُّمه هيجمعوا الفلوس وييجوا يدفعوا، وسابوه وراحوا يتأمروا إن حد فيهم يطلع فوق البيت اللي النبي قاعد تحته ويحدف عليه حجر يقتله، بس الوحي نزل بسرعة نبه النبي للكمين الحجري.. فهرب، ثم عاد بالجيش لينتقم منهم جراء خيانتهم.

الرواية التانية، للحافظ ابن حجر، المولود بعد سبع قرون من الواقعة (773 – 852 هـ)، بتقول إن القرشيين تواصلوا مع بنو النضير وحطوا خطة لقتل النبي، وكان مفادها إنهم تحدوا النبي في مناظرة بينه وبين تلاتة من علمائهم، بس التلاتة دول كانوا هيستعدوا بالخناجر، بس فيه سِت “غير معلومة الاسم” عِرفت الخدعة وبلغت قريب ليها مسلم “غير مُعلوم اسمه” فبلغ النبي، اللي خد الجيش وراح ينتقم من الخيانة المُخطط ليها.

مصير بنو النضير

حاصر المسلمين مناطق بنو النضير ما بين أسبوع وعشر تيام، ومع شدة الحصار استسلموا وتفاوضوا مع النبي على حياتهم، فحكم عليهم بالخروج بأهلهم واللي يقدروا يشيلوه من ممتلكاتهم إلا السلاح، وبالمناسبة دي نزل الوحي بسورة الحشر كاملة.

فخرجوا كلهم، إلا إتنين أسلموا، وشالوا كل اللي يقدروا عليه من منقولات، وخرجوا في اتجاه الشام.. بس بعضهم استقر في خيبر.

وبكده ماعدش من بنو النضير أي حد جوه المدينة.

بنو قريظة

سنة 5 هـ، بمجرد نهاية موقعة الأحزاب/الخندق، أعلن النبي الحرب على بنو قريظة بناء على أمر إلهي وصل للنبي عن طريق ملاك الوحي “جبريل”، كما ورد في حديث منسوب لعائشة بنت أبي بكر.

الحديث درجته “صحيح”، بس في رأيي مشكوك جدًا في صحته، بسبب صيغته غير المنطقية، واللي يتصور من يقرأها أو يسمعها إن زوجة النبي كانت ترى وتسمع الوحي زيها زي النبي نفسه.

ع العموم اللي يهمنا هنا إن بُناء ع الأمر ده، خرج النبي من بيته وجمع المقاتلين وتوجه لحصار بنو قريظة.

مصير بنو قريظة

فكر بنو قريظة إنهم يعملوا زي بنو قُينقاع، ويطلبوا حماية حليفهم من كبار يثرب، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس.. فطلبوا أن يكون مصيرهم في يد سيد الأوس سعد بن معاذ.

حكم بن معاذ أن يقتل كل مقاتل منهم وعيالهم ونسوانهم يتاخدوا سبايا وأموالهم غنيمة، فصُعق بنو قريظة.. وقال النبي قولته الشهيرة: لقَدْ حَكَمْتَ فيهم بحُكْمِ اللهِ.

فتم قتل كل ذكر نبتت عانته (طلع له شعر جنوب بطنه) وتم أستعباد الأطفال والنساء ومصادرة الممتلكات كغنائم حرب.

وبكده مافضلش من بني قريظة في المدينة غير نساء بقوا جواري أو زوجات وأطفال بقوا عبيد.

اليهود فِنيتو

وبكده أكتمل طرد كافة اليهود من يثرب/المدينة، وماعدش فاضل منهم إلا نسوان وعيال صغيرة كلهم مُسترقين.

أين تقع خيبر

منطقة خيبر دلوقتي تقع إداريًا ضمن زمام المدينة المنورة، إنما أياميها كانت خارج حدود يثرب/المدينة، حيث إنها تقع على مسيرة مسيرة 3 تيام شمال المدينة.

خيبر خيبر يا يهود

سنة 7 هـ، بعد صلح الحديبية بشهور هاجم المسلمين حصون اليهود في خيبر، واختلفت الروايات على سبب الهجوم. روايات بتقول إنهم كانوا من المشاركين في المؤامرة اللي ماتمتش وقت موقعة الأحزاب/الخندق.

وروايات تانية إنهم بقوا مركز للمكائد والدسائس ضد النبي والمسلمين، خصوصًا بعد ما أستقر فيها بعض اليهود المبعدين من يثرب/المدينة.

وفيه روايات تالتة بتتبنى السببين، في كل الأحوال النتيجة في النهاية كانت هجوم جيش المسلمين عليهم.

مصير يهود خيبر

حسب الجزء الرابع من البداية والنهاية، سقطت حصون يهود خيبر في إيد المسلمين حصن ورا التاني، ومع أخر حصن أضطروا يستسلموا، وفاوضوا النبي إنه يسيبهم يزرعوا أرضهم ويدفعوا نص المحصول جزية، فوافق على شرط أن يحق للمسلمين يخرجوهم منها في أي وقت.

وبكده حصل المسلمين على كل أموال وسلاح يهود خيبر، ده غير الأسرى اللي تم أستعبادهم، واللي أشهرهم صفية بنت حيي.

وسبب شهرتها أن النبي أصطفاها لنفسه (نقى واختارها)، بس ماجعلهاش جارية إنما أعتقها (جعلها حرة)، على أن يكون عتقها هو مهرها. واتجوزها وبقت من أمهات المؤمنين.

باقي يهود شبه الجزيرة

حسب كتاب مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، تأليف د. أحمد إبراهيم شريف، (فيه قصة قبائل اليهود ومصائرهم بترتيب ولغة سهلة نسبيًا)، باقي يهود شبه الجزيرة في (فدك، وادي القرى، تيماء) وأول ما عرفوا بسقوط خيبر جريوا يعلنوا استسلامهم وخضوعهم للمسلمين، وبعضهم دخل الإسلام أساسًا.

إقرأ أيضا

حدوتة من زمن التليفون أبو قرص

واللي فضلوا على دينهم مشي عليهم نفس حكم يهود خيبر، يفضلوا يزرعوا أرضهم ويسلموا نُص المحصول للمسلمين، ويحق للمسلمين إجلائهم/طردهم في أي وقت.

وبكده مابقاش في المدينة يهود غير ستات وعيال صغيرة كلهم مسترقين، وبقيت اليهود اللي في شبه الجزيرة كلهم انهزموا وبقوا بيدفعوا نُص محصولهم جزية.

بناء على ما سبق، وقت موت النبي ماكنش فيه أي “رجل” يهودي عايش في المدينة/يثرب، ومافيش في شبه الجزيرة كلها “رجل” يهودي حيلته حاجة يسلفها للنبي، اللي هو أصلًا بيدفعله نُص دخلُه جزية.

اليهودي المفقود

ثانيًا.. حسب حديث الدرع المرهون، تحديدًا الرواية المقدمة لغير المتخصصين/”العوام” (اللي همه إحنا يعني)، فاليهودي المزعوم هو رجل من بني ظفر.

فيلا بينا نشوف مين بني ظفر دول اللي اسمهم ماوردش في القبائل اليهودية المطرودة من المدينة.

بني ظفر

بالبحث السريع عن قبيلة بنو ظفر اليهودية كانت النتيجة صفر، بس بالبحث عنهم من غير صفة اليهودية ظهر لهم وجود في المدينة/يثرب، وبرضك وكالعادة فيه قولان.. قول إن بنو ظفر من الأوس وقول تاني أنهم من الخزرج.

والقولين بيقولوا إن منهم اللي كانوا مسلمين صحيحين الإسلام ومنهم اللي كانوا منافقين، بس ماحدش جاب سيرة أنهم كانوا يهود أو حتى ضمنهم يهود (رغم استبعاد “من ضمنهم” دي أصلًا، لأن اليهودية دين قومي). يبقى مين اليهودي اللي النبي مات وهو مديون له ده؟!

ثالثًا.. طيب نسيبنا خالص من شخصية الدائن وندور على ظرف الإستدانة نفسه.. ونسأل نفسنا سؤال:

هل النبي كان فقير ومحتاج لدرجة إنه يستلف؟

الأنفال

بالرجوع للآية 41 سورة الأنفال نلاقي إن النبي كان مُخصص له شرعًا خُمس الغنيمة من أي حرب، ده غير إنه في الأساس وريث سيدة أعمال كبيرة وغنية، خديجة بنت خويلد.

فماشي نقول إن النبي كان مثال للإنسان الزاهد في الحياة، وإنه كان بيتصدق بكل “ما يزيد” عن حاجة بيته، لكن نقول إنه كان بيتصدق بكل “ما يملك” ثم يرجع يستلف احتياجات بيته، لدرجة إنه يموت ومافيش في بيته ما يسد احتياجات أهله.. وكمان يورثهم ديون.

فأعتقد إن الكلام مش منطقي وكمان مسئ للنبي وقدرته على التفكير وإدارة أمور حياته.

سؤال الحلقة

النبي في حياته طرد قبائل اليهود من المدينة، ثم كمان سيطر على أخر معقل لليهود في شبه الجزيرة كلها. النبي كان وريث زوجة غنية جدًا.. كمان كان له الحق في خُمس الغنايم، وكان شخص عاقل مش هيتصدق باللي وراه واللي قدامه ويعيش هو ومراتاته وبناته في حاجة وعَّوز ويضطر يرهن حاجته عشان يأكلهم.

والأغرب من كل ده، إنه وقت ما يكون محتاج مايلاقيش ولا واحد من صحابته الأجلاء الأبرار الميامين يميل عليه، إنما يضطر يروح يدور على يهودي -من اللي بيدفعولوه الجزية- عشان يسلفه.

يبقى السؤال، أزاي في ضوء المعطيات اللي فاتت نصدق إن النبي مات مديون لرجل يهودي في المدينة؟، الأقرب من وجهة نظري أن الرواية خيالية تمامًا، وارد تكون إضافة أضافها أحد الرواة من باب الحَّض على الزُهد في الحياة وحُسن الجوار، بس وسعِت منه حبتين.

ملحوظة:

أنا مش بشكك في كلام وأفعال النبي، إنما بشكك في الآليات اللي وصلنا بيها الروايات دي، لأن مافيش لا عقل ولا منطق بيقولوا أن كلام أتقال ولا موقف حصل.. الناس هتفضل تتناقله شفهيا لمدة عشرات السنين بنفس الدقة.