
الزواج والطلاق بين التوثيق والشفاهة

-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
من المعروف أن الأصل في الزواج والطلاق هو الشفاهة، مثله في ذلك مثل باقي الاتفاقات بمختلف أنواعها من مواثيق اجتماعية وسياسية واقتصادية، ثم مع تزايد البشر وتعقُد المجتمعات وتغير الأخلاق وقواعدها أصبح لا فكاك من عملية التدوين، فأكم من حقوق ضاعت على أصحابها لعدم وجود وثيقة تثبتها بشكل رسمي.
فداخل القرية أو القبيلة أو أي مجتمع صغير الحجم قليل العدد تظل للشفاهة سطوتها ونفوذها وقدرتها على إلزام جميع الأطراف على احترامها، أما مع تزايد الأعداد وانتفاء واقع -أن الجميع يعرف الجميع- تفقد الكلمة المنطوقة هذه السطوة لصالح الكلمة المكتوبة، أو ما يمكن تلخيصه في أن الأوراق الرسمية لا تصنع الحقائق ولا هي حقائق في ذاتها؛ إنما هي إثبات لهذه الحقائق.. وبدونها تتوه الحقائق وتضيع الحقوق.
توثيق الزواج
إن الأصل في الزواج هو قواعده التشريعية المتفق عليها من إيجاب وقبول ومهر وإشهار وخلافه، لكن عملية التوثيق -غير المنصوص عليها شرعا- أصبحت -كما سلف- ذات أهمية مجتمعية.. فما هي الأمثلة على هذا الكلام؟
حفظ حقوق النساء:
قال د. شوقي علام، مفتي الديار المصري آن ذاك، في برنامج نظرة المذاع على قناة صدى البلد، بخصوص مسألة توثيق عقود الزواج: “لماذا توثيق الزواج؟؟ قبل سنة 1931 حدثت مشكلات في الواقع المصري، في إنه وجدت ظاهرة عبارة عن؛ أن أزواج وبعد زواجهم بالإيجاب والقبول.. الشفوي، وبعد مرحلة معينة من الزواج ينكر الزوج – عادة الزوج هو من ينكر – هذه العلاقة الزوجية، بالتالي ينكر بالتبعية أبناءه من هذه الزيجة، فندخل هنا في دائرة قضائية بغرض الإثبات، والإثبات عسير في هذه الحالات خاصة حين تتقادم مرحلة الزواج أو أن ينتقل الزوج من بلد إلى أخرى، فتصبح الزوجة في حيرة من أمرها… كيف يمكن أن تثبت زواجها؟، فالمُشرع أو المُقنن المصري اخترع فكرة التسجيل، وجعل توثيق الزواج أساس لقبول الدعوة“.
وبهذا تبدل أمر الإشهار، أو بالأحرى تطور؛ فأصبح من الممكن أن يتم زواج شرعي بقواعد شرعية ثم يمكن لأحد الطرفين، غالبا يكون الزوج حسب مثال د. علام، أن ينكره ولا يستطيع الطرف الأخر إثبات حقه، فترتب على ذلك تطوير عملية التوثيق.. إذ أصبح من غير الممكن إستخراج شهادة ميلاد لطفل دون وجود عقد زواج موثق.
في حين أن من الممكن أن يتم صياغة وتوثيق عقد زواج بدون معرفة إلا المأذون والشهود، رغم ذلك تبقى حقوق الطرفين محفوظة نتيجة لعملية التوثيق الرسمية.

آراء قديمة:
توثيق الزواج من المصالح التي يسميها الفقهاء ورجال الدين “مصالح مرسلة”. إذ قال الشاطبي في كتابه “الاعتصام“: “المصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم، فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول وإن كان فيها خلاف بينهم“.
قياس من القرآن:
في مسألة إثبات الحقوق جاءت الآية 282 من سورة البقرة لتكون بمثابة نموذج يقاس عليه كيفية حفظ الحقوق:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
من الواضح أن المقصود في الآية هو تدوين/توثيق المعاملات التجارية، لكن ليس هناك ما يمنع أن يتم الاعتماد على هذا النص في تشريع توثيق الزواج بناء عن القياس كقاعدة، خاصة وأن الغرض في الحالتين هو نفسه.. حماية الحقوق من الضياع.
نماذج سلبية
يظن البعض أن الحديث عن ضرورة توثيق الزواج هو من ترف الحديث، فليس كل الناس تعلم أن هناك زيجات ليست بقليلة تتم أعتمادا على الشفاهة دون توثيق، أو يعتمد أطرافها على توثيق أوراق أخرى فيما يعرف شعبيًا بـ”زواج السُنة”.. كتخريجة غير قانونية لجريمة تزويج القاصرات، كما يوجد أيضًا الزواج العرفي بغرض الحفاظ على بعض المكتسبات كالمعاش مثلا، ويمتد الأمر للمسلمين في الدول الغربية.. والذين يعتمد بعضهم على الزواج الشرعي في المساجد أو المراكز الإسلامي؛ لكن عدم توثيق “عقد زواج مدني” معترف به في هذه البلاد يؤدي لضياع الحقوق وحدوث أزمات كبرى؛ إذا كان أحد الطرفين -غالبا الزوج- فاسد الذمة أو إن الأمور شديدة التعقيد والتركيب كما في مسلسل “لعبة نيوتين”.

زواج شرعي بلا حقوق:
في تقرير للصحفية هبة حسام، نشره موقع اليوم السابع في نوفمبر 2023، رصدت بالأرقام والإحصائيات حالات الزواج العرفية وغير المسجلة -لأسباب مختلفة- في مصر، بناء عن تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
في ذلك الوقت تم الإعلان عن استعداد الدولة لاعتماد قانون أحوال شخصية جديد لن يعترف بالزواج العرفي ولابد من توثيق أي عقد زواج خلال فترة زمنية محددة، وبناء عن ما ورد للجهات الرسمية من عقود بهدف توثيقها أمكن للمركز إصدار تلك الأرقام، التي جاءت -حسب التقرير الصحفي- كما يلي:
– 94.6 ألف “آنسة”.. 3105 مطلقات وأرامل ارتبطن برجال “أول مرة زواج”.
– 67.3 ألف فتاة “يتصادقن” فى عمر 18 عام.
– 258 فتاة توثق زيجاتها”العرفية” مع كبار سن.
– 12.1% من إجمالى عقود زواج العام الماضى “عرفية”.
– 822 فتاة لم يسبق لها زواج “تتصادق” مع رجال مطلقين.. و64 مع أرامل.
– 12.6 ألف أُمَّيّ أقبل على الزواج العرفي خلال 2022.. و24.3 ألف تعليم متوسط.
وبطبيعة حال القانون المصري كل تلك الزيجات، وغيرها التي لم يتم حصرها وتوثيقها، فكل هذه الزيجات يكون أحد شروطها هي عدم الإنجاب، إذ لا يمكن تسجيل المواليد دون وجود وثيقة إثبات زواج، بالتالي فالحقوق هنا ليست فقط للزوجين (الزوجات بشكل أكبر عمليا) فإن التوثيق يحفظ حق المواليد قبل أن يأتوا لهذا العالم.
بناء عليه فعدم التوثيق لا يضيع فقط حقوق أحدد طرفي العقد الذان اختارا المخاطرة، لكنه أيضًا إنسان أخر “أو أكثر” لم يكن له دخل في هذه الزيجة.

الوضع في الخارج:
يحدث الوضع نفسه في أوروبا والدول الغربية، فالقوانين هناك تحظر التعدد وتفرض الزواج الآحادي على الجميع، فأحيانا يلجأ المسلمين هناك للزواج العرفي (زواج غير موثق) باعتباره حل شرعي لما تقوم به القوانين هناك من منع، لكن ما هو الحال حين يطلق الزوج هذه الزوجة؟ هل يستطيع المجمع أو المركز الإسلامي أن يضمن لها حقوقها؟
هناك لن يعاني الأبناء إذا كانت الضحية تحمل الجنسية، فالدولة ستتكفل بكثير من مصاريف الأبناء حال وجودهم (حسب نظام كل دولة) لكن ماذا عن حقوق الزوجة نفسها؟ وماذا إذا كانت لا تحمل جنسية الدولة؟
ختامًا
كل ما سبق يقود إلى أمر واقع يتفق عليه الجميع وهو أن التوثيق يضمن الحقوق، حتى أن من يخترقونه بحجة الأكتفاء بأهمية الشرع دون القانون.. يكونوا حريصين على خلق ضمانات قانونية مختلفة، مثل الشيكات أو إيصالات الأمانة.. إلخ.
ولم يفترض أبدا أحد أن عملية التوثيق تعد بدعة تنتقص من شرع الله أو تبدل فيه، فهل يأتي يوم على الطلاق ويعامل نفس المعاملة؟ فعمليًا لا يحق للزوجة الشروع في التعامل كمطلقة إلا بعد توثيق الطلاق، بالتالي هناك فجوة بين وقوع الطلاق شرعًا اعتمادًا على الشفاهة وبين ممارسة الناس الإجراءات الرسمية اللازمة لحفظ حقوقهم وكذا ممارساتهم الحياتية المنطلقة من وقوع هذا الطلاق.
فمثلا إذا نطق زوج يمين الطلاق في شهر يناير ولم يتم توثيق هذا الطلاق إلا في شهر مايو، هل بذلك تكون الزوجة حرة نفسها بمجرد وقوع يمين الطلاق أم تبدء عدتها من تاريخ التوثيق؟، وغيرها من الأمور القانونية والشرعية المترتبة، كالزواج والسفر وصرف المستحقات المالية… ألخ.
من المفروغ منه إن الله لا يضيع حقوق أحد، لكن هذا يوم الحساب.. فماذا في أيدينا نحن البشر في هذه الحياة لضمان حقوقنا غير التوثيق؟

الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
ما هو انطباعك؟







