همتك نعدل الكفة
587   مشاهدة  

الشارع ده أوله بساتين، وأخره حيطة سد

الشارع ده أوله بساتين، وأخره حيطة سد


كنت طفلة صغيرة سمراء بعيون واسعة، لا أعرف عن العالم غير ما تراه شرفتا منزلنا، وما يتم تلقيني إياه في المدرسة.. في المدرسة كانوا يخبروني بـ “حب أخيك”، عليكِ أن تجلسي كما تجلس الأميرات، الإتيكيت يخبرنا بذلك.. أما شرفتا منزلي فكانا الأهم.. يطلا على على عالم سحري وهادئ الشرفة الصغيرة تطل على فيلا الملكة فريدة، يخبرني أبي يوميا أنا تلك الفيلا التي مثلت فيها جميع أفلام الأبيض والأسود التي نعشفها، أمام فيلا الملكة فريدة كان هناك فيلا أخرى صغيرة للغاية، ولكتك لا يمكنك إلا أن تلاحظ يوميا رجلا وسيدة طاعنين في السن يحتسيان شاي الساعة الخامسة في تراس الفيلا.. شرفتي الأخرى كانت تطل على فيلا ومعمل أنيس عبيد، بجوارها فيلا الراقصة لولا، وفيلا كاثرين تلك الفتاة الجميلة جمالا مبهرا، حينا الهادئ جدا، لم أرى يوما شخصا يتطاول مثلا على لولا الراقصة المعتزلة، بل كان الجميع يكنون لها كل الاحترام.

الشارع
فيلا الملكة فريدة في نفس الشارع

كان يومي يبدأ بأن أفتح شرفة حجرتي ليتسلل إلى منزلنا رائحة الزهور من فيلا الملكة فريدة ورائحة التمر حنة التي بدأت فروعها الأولي في فيلا أنيس عبيد ثم أمتدت لتغطي كافة مباني حينا الهادئ الصغير .. ثم أذهب مع حسين لشراء الخبز “حسين صديق الطفولة” لم نكن نفارق بعضنا إلا للنوم، هذا إن جائنا النوم كأطفال تكتشف العالم .. ثم نعود لنرى أنيس عبيد يفتح شباك معمله ولولا تنزل لتسير بكلبتها اللولو قليلا .. نراقب أنيس عبيد وهو يقوم بعمله وكأننا نراقب العالم من صندوق الدنيا .. نحب حينا الهادئ .. حي كوزموبوليتان.. ننام ليلا على صوت عزف عم محمود بواب فيلا أنيس عبيد على الناي، وربما يندمج معه شحات الذي يعمل بالمخبز الأفرنجي ويصدح بالغناء بصوت يحمل كل أحداث يومه الطويل المنهك:مع عزف عم محمود الذي اعتقدت إنه بالتأكيد جزء من موسيقى الجنة .. ينهي عم محمود عزفه ثم يجمع حوله الكلاب الضالة ليطعمهم ويفتح باب الفيلا لينعموا ببعض الدفء.. كنت محظوظة للغاية .. أنا طفلة نشأت على موسيقى من الجنة ورائحة التمر حنة التي تغزو غرفتي طيلة الوقت وتغلف شارعنا بألوان قوس قزح .. لم يكن يؤرق صفو حينا الهادئ سوء عم قاسم بسبابه المفاجئ  لمن يزعجه من أطفال الشارع، دائما ما تسمعه يصرخ بهم “يا أولاد القحابي” ثم يبتسم بسخرية ويتفل جانبه ويعود لفيلته غير عابئ بالآخرين، يعرف كم يحبه البقية، وكم يتقبل الكبار فلتات أعصابه ..كنت اعتقد أن العالم كله يعيش بنفس  الطريقة .. ليس هناك عالم آخر ينبذ صراخ عم قاسم أو كلبة لولا الراقصة أو ناي العم محمود

حنى ظهر الشيخ محمد بزاوية جامعنا .. مطلقا لحيته “لم أري من قبل شخصا يطلق لحيته إلى هذا الحد” مبتسما دائما، يمسك بالسواك بيده ويعرض على أهالي حينا الهادئ أن يبدأ في تحفيظ أولادهم القرآن، كنت في التاسعة، ولقد تحمست أنا وحسين للأمر، في اول يوم ذهبت إلى الزاوية لأحفظ بعضا من ما تيسر من القرآن على يد الشيخ محمد، عبس الشيخ محمد في وجهي وهو يطالبني بغطاء للرأس، “ليس على الفتاة أن تتلوا القرآن دون أن تغطي شعرها” هكذا أخبرني!

في المرة الثانية .. طلب أن يحضر الفتيات وحدهن والصبية وحدهم .. “لن يحضر حسين معي!”، ولكنه أخبرني أيضا عن حرمانية معرفتي بحسين.. ثم تطرق لحرمانية صداقتي لكاثرين، أخبرني أن حسين فتنة وأن كاثرين كافرة .. ومد يده ليقرص ذراعي المكشوف …” مش حنغطي راسنا ونسيب دراعتنا الحلوة دي” … لم أنسى جملته، ولم أنسى مكان ما امتدت يده لتقرص ذراعي، وكيف احتفظ بنفس الابتسامة الهادئة وهو يفعل كل هذا .. حتى حينما أخبرني أن كاثرين كافرة!، وأن علي التوقف فورا عن معرفتها.. لم أذهب بعد ذلك أبدا لحفظ القرآن مع الشيخ محمد .. أنا أحب حسين فهو أخي وأحب كاثرين وأحب تريزا بنت العم شحاتة، وأكره العلامة التي تركتها قرصة الشيخ محمد بذراعي، بل بداخلي ما يكره لمسته نفسها وتقزز من فعلته.. ولكني كنت أصغر من أن أستوعب ما يحدث.. مجرد طفلة في التاسعة من عمرهاا!

حدث والدي عن وجوب حجابي وانا في التاسعة من العمر قائلا بنفس ابتسامته البشوشة “حتى تعتاد على ذلك”.. وفجأة أمتلأ شارعنا الهادئ بالعديد من الشيخ محمد .. يرتدون ملابس بيضاء ويصادرون أفعال الآخرين.. يدخلون صالة البلياردة العتيقة ليدمروها ,, وتتحول صاالة البلياردة الهادئة إلى صالة حديد.. صالة حديد يخرج منها عمالقة بذقون عملاقة تغلف شارعنا بدلا من التمر حنة ويغزو غرفتي رائحة عرقهم وتجرح عيوني ملامحهم الحادة التي تحولت فجأة من الابتسامات البشوشة، إلى نظرات من الاحتقار تحمل تهديدا ما، حتى أن لولا لم تعد تنزل لتتريض بكلبتها اللولو أو حتى دونها، وتريزا كانت تخافهم .. بعد فترة جائنا خير القبض على الشيخ محمد وشخص آخر، في فترة قصيرة خرج الشخص الآخر وعاود عمله، اما الشيخ محمد فلم نعرف عنه أي معلومة حتى الان.. استغرب أبي كثيرا لم القبض على شخص يجلس في  زاوية ليعلم الأطفال القرأن؟!، فأجبته: لأنه يقرصني بذراعي ويخبرني أن كاثرين وتريزا كافرتان يجب أن يموتا، وأن حسين ليس أخي!

يحتضنني أبي ويرسل معي لتريزا بعضا من البندق لأنها تحبه .. يزداد عدد العمالقة بذقونهم العملاقة في حينا الهادئ، ويتوقف العم محمود عن عزف الناي، وأرى النساء وقد بدأن بوضع أغطية الرأس، فأخبر نفسي “لقد قام الشيخ محمد بقرصهن جميعا في ذراعهن”، فيبتسم أبي بحزن ويخبرني عن تفجير الحسين وتفجير ميدان التحرير، ويخبرني عن نساء يتم تشويههن في مناطق أخرى ليفطوا رأسهم .. وأصمم أنا أن الشيخ محمد قام بقرصهن من ذراعهن وأمرهن “غطي الدراعات الحلوة دي”.

*العنوان من قصيدة لصلاح جاهين، وقد غنتها فرقة المصريين

اقرأ أيضا

إقرأ أيضا
قتل

شعب “دونت ميكس” بطبعه

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
6
أحزنني
1
أعجبني
5
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان