
العَلمَانية والدين

-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
يَروج في أوساط المسلمين الإيمان بنظرية المؤامرة، وتحت هذه الفكرة العامة هناك عدد من الأفكار والمفاهيم والمصطلحات يتوجس منها عموم المسلمين أو يرفضونها بشكل كبير بوصفها جزء من هذه المؤامرة؛ وتعد “العَلمَانية” أحد أبرز هذه الموضوعات، فهل فعلًا العَلمَانية جزء من مؤامرة على الإسلام والمسلمين؟ أو إنها نقيضة للإسلام تحديدًا والدين بشكل عام؟
ما هي العَلمَانية؟
العَلمَانية هي مفهوم سياسي يمثل الإطار الحاكم لكافة الدول المعروفة باسم العالم الأول أو الدول المتقدمة، بطبيعة الحال توجد دول علمانية ضمن دول العالم الثالث أو الدول النامية؛ بالتالي فليس كل الدول العَلمَانية متقدمة إنما كل الدولة المتقدمة علمانية. نشأ مفهوم العلمانية في أوروبا، بالتالي فعلى من يريد معرفته اللجوء لتعريف الأوروبيين له.
التعريف:
وحسب موقع الجمعية القومية العلمانية ببريطانيا عَّرف مبادئ العلمانية كالأتي:
- فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة والمجال العام، حيث يمكن للدين المشاركة دون أن يهيمن.
- حرية ممارسة المرء لعقيدته أو معتقده “دون الإضرار بالآخرين” أو تغييره أو عدم امتلاكه، وفقًا لضميره.
- ضمان المساواة بحيث لا تضع معتقداتنا الدينية أو عدم وجودها أيًا منا في ميزة أو ضرر.
- فصل الدين عن الدولة، فالفصل بين الدين والدولة هو أساس العلمانية. حيث يضمن عدم تدخل الجماعات الدينية في شؤون الدولة، وعدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية.

ثنائية العلمانية والالحاد:
يربط كثير من رجال الدين بين العَلمَانية والالحاد، فعلى سبيل المثال يقول الشيخ ابن باز (1912 – 1999)، في رده على سؤال “العلمانيون هل كفرهم أكبر؟” أجاب بشكل جازم أن العلمانية كفر والعلمانيين كفار، إذ قال: “العلمانيون ما يؤمنون بالدين، يدعون الدنيا، ما يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، هذا العلماني يدعو إلى متابعة العالمين، وأن يكون على رأي العالمين في شركهم وضلالهم وخرافاتهم“. ثم دار بينه وبين السائل حوار قصير
“س: هم يقولون بفصل الدين عن الدولة؟
ج: هذا معناه، ما عندهم دين، يدعون إلى العالمية.
س: إذًا كفار؟
ج: نعم.
س: يقولون الدين في المسجد أما برا المسجد لا؟
ج: ولو، بعضهم ما يرى الدين بالكلية، يرى الدعوة إلى ما عليه الناس وبس
ما معنى العلمانية وحكم المنتسبين إليها؟“.
وهو رأي قاطع بات وفي نفس الوقت لا علاقة له بالتعريف السياسي الأكاديمي أعلاه.

هل العلمانية مؤامرة غربية ضد الإسلام؟
نشأت العلمانية في أوروبا، المسيحية وقتها، وكان أهم أهدافها التخلص من الحروب المذهبية (المسيحية – المسيحية)، بين الغالبية الكاثوليكية والأقلية البروتوستانتية، التي تعد حرب الثلاثون عام (1618 – 1648م) أحد أبرز تجلياتها، وراح ضحيتها قرابة الأثنا عشر مليون أوروبي، وبحسب الموقع الرسمي للسفارة الفرنسية في مصر فإن العلمانية هي مفهوم أوروبي معاصر دخل اتباعه في صراع مع الكنيسة هناك:
“شهادة ميلاد العلمانية في مفهومها المعاصر خطتها الثورة (الفرنسية) مؤكدة على استقلالية المعتقد، على الصعيدين الروحاني والديني. وهو مفهوم حديث تمت صياغته بحذر في المادة 10 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789: (يمنع التعرض لأي شخص بسبب آراءه وأفكاره، بما في ذلك الدينية منها، شريطة ألا يخل التعبير عنها بالنظام العام الذي أرساه القانون). وقامت الجمعية التشريعية في 1792 بعلمنة الأحوال المدنية وبهذا لم تعد المواطنة مرتبطةً بالدين.
كما أن تاريخ العلمانية لم يخلوا من الأزمات فقد أدى اعتماد مرسوم التشكيل المدني لهيئة رجال الكهنوت، مكونًا تدخلًا سياسيًا في مجال الدين، إلى انقسامات دامية. كما أن دخول القانون المدني حيز التنفيذ قد أضفى نهائيًا صفة العلمنة على حقوق الأشخاص والمجتمع.
وأخذت الكنيسة والجمهورية تدخلان في صراع بين وجه للبلاد يقابله وجه آخر بحيث أصبحت فرنسا ذي وجهان. عندها ترسخت العلمانية في مؤسساتنا مع اعتماد القانون الجمهوري الهام سنة 1905، والقاضي بالفصل بين الدين والدولة. وهكذا لم تعد فرنسا تعرف بنفسها على أنها أمة كاثوليكية المذهب“.
من هذه السطور يظهر للباحث أن المعارك التي خاضتها العلمانية كانت ضد المسيحية –الكاثوليكية تحديدًا- الحاكمة في أوروبا.

العلمانية والإسلام
تكمن الأزمة بين المسلمين والعلمانية في المفهوم؛ إذ تُقَدّم دائمًا بوصفها منهج للإيمان بالعِلم عوضًا عن الدين، ومفتاح حل هذه الأزمة يكمُن في التشكيل، فالمصطلح في أصله الإنجليزي secularism والمقصود به “الدنيوية”، أي أن المصطلح في العربية هو “العَلمانية” من “العالم” وليس “العِلمانية” من “العِلم”.
بعد تحديد الفارق اللغوي يبقى سؤال: إلى ماذا يفضي هذا الاختلاف؟

العَلمانية والعَلمانيون في مواجهة ماذا؟
هذا التعديل الطفيف ينفي، أولًا، عن المصطلح التفسير الخاص بإنه يقصد استبدال الدين بالعِلم، وفي نفس الوقت يوضح، ثانيًا، أن المقصود منه هو التركيز على أمور الحياة فقط، وبما إنه مصطلح “سياسي” فيسهل فهم أن (المنهج السياسي العَلمَاني) هو (حصر السياسة في أمور الحياة/الدنيوية).
فهل نفهم من ذلك أن العَلمانيون ينطبق عليهم قوله تعالى في الآية 24 من سورة الجاثية ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾؟
الإجابة تحتاج لفهم دقيق لدلالة مصطلح “عَلمَاني”، وهو ما يمكن الوصول له بأحد الطريقين:
- البحث في تاريخ نشأة المصطلح للوصول إلى ضده أو نقيضه.
ما يقتضي البحث في تاريخ الحركة السياسية والاجتماعية الأوروبية على مدار عدة عقود من الزمان.
- البحث في المصطلحات الكنسية.
اعتمادًا على المعرفة المسبقة بصراع العَلمَانيون مع “الكنيسة” وسلطتها المهيمنة على السياسة والمجال العام، في أوروبا، بالتالي من الوارد أن يكون مصطلح secularism (عَلماني – دنيوي)، الذي اختاروه لأنفسهم، يناقض في معناه أحد المصطلحات المرتبطة بالكنيسة أو بالسلطة الدينية.
ومما لا شك فيه أن الطريق الثاني أسهل نسبيًا من الأول.

مصطلحات كنسية:
كتب الأب رفيق جريش، خبير مجلس البطاركة وراعي كنيسة القديس كيرلس بمصر الجديدة، في مستهل مقالُه “الكنيسة والإكليروس“، يقول: “الكنيسة فى تعريفها العام والبسيط مكون من المؤمنين كلهم سواء كانوا إكليروسًا أو شعبًا، وإلاكليروس هم المنوط بهم قيادة ورعاية الشعب المؤمن والصلاة معهم ولأجلهم اقتداءً بالراعى الصالح السيد المسيح ويتم اختيارهم حسب معايير روحية وعلمية معينة، ويتكون الإكليروس من (البابا والبطريرك ثم المطارنة فالأساقفة فالكهنة برتبهم المختلفة فالرهبان والراهبات).
أما المؤمنون فيطلق عليهم أيضًا «العلمانيون» أى الذين ليسوا من (الإكليروس) ولكن من الشعب المؤمن، والكل معًا يكونون الكنيسة ورأسها هو السيد المسيح، لكن كثيرًا ما يطلق فى كلامنا الدارج كلمة «كنيسة» قاصدين منها «الإكليروس» فحسب وليس العلمانيين منهم، فإذا هاجم أحد الإكليروس أو شخصا من الإكليروس، يقول «الكنيسة» فعلت كذا أو كذا أو لم تفعل كذا أو كذا….. إلى آخره ويقصد به الإكليروس فقط“.
ومن خلال هذا الشرح الكنسي المتخصص يمكن فهم أن “عَلماني” هو عكس “إكليروسي”، أي من هو خارج السلك الكنسي وتراتبيته الكهنوتية؛ ذات السلطة الدينية.

ختامًا
بناء عن ما سبق فإطلاق مصطلح “العَلمانية” على توجه سياسي قائم على تقويض سلطة “الكنيسة/الإكليروس” وتمكين “شعب الكنيسة/العَلمانيين” من فرض ما يروه مناسب من سياسات لإدارة الحياة على الأرض “العالم/الدنيا”، يصبح أمر مفهوم تمامًا، فمن يرفضون تمدد سلطة الكهنوت الكنسي خارج حدود أمور “الدين” لتشمل أيضًا أمور “العَالم” من سياسة وخلافُه هم بالأساس تصنيفهم الكنسي “عَلمانيون”، إذ ينتمون إلى العَالم لا إلى الكنيسة “بمعناها الكهنوتي”.
نخلص من ذلك كله لحقيقة واحدة، ألا وهي ضرورة الإطلاع والبحث إذ أراد الإنسان أن يفهم أمر غريب عليه أو مُلغز بالنسبة له، فالاعتماد التام على فهم وتحليل أي شخص أخر دون الرجوع للمصادر الرئيسية يشكل خطورة على وعي الإنسان.
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
ما هو انطباعك؟







