القمر بين هذا وهذه

تري هل القمر مذكر أم مؤنث؟

هل لاحظتم أن للقمر وجوه متعددة ؟ بل واشكال متعددة ايضا؟

وهل هذا التعدد صاحبه تعدد فى المفاهيم الثقافية حيث تجعل منه تارة مذكر مثلما نجد في الثقافات العربية والسكسونية والفايكينج وتارة مؤنث في الثقافات اللاتينية وبعض الحضارات الأسيوية القديمة؟

فهل القمر فعلا مذكر أم مؤنث؟ وإذا كان القمر في ثقافتنا العربية مذكرا كما هو شائع ومعروف فلماذا يشار الى المرأة الجميلة بأنها قمر؟ …. تساؤلات كثيرة ربما يجيب عنها هذا التحليل المختصر لاحدى اساطير الغجر الأوروبي قديما.

البداية

أثارت فضولي بشدة كلمات أغنيه شهيرة لفريق البوب الإسباني الشهير بالثمانينات (ميكانو) ، وكان اسمها ابن القمر
وهي من أكثر أغنيات الثمانينات نجاح وشهرة في عالم الناطقين باللغة الاسبانية وقد ترجمت منها نسختين ايطالية وفرنسية ايضا على الرغم من أنها أغنية كئيبة و غامضة وغير مفهومة لحد كبير وأشبهة بقصيدة بوهيمية أو أبيات شعر ميتافيزيقي من الواقعية السحرية كما كان يحدث في الأدب اللاتيني في تلك الفترة. وقد كتبها الشاعر والمغني والرسام الشهير خوسيه ماريا كانو اندريس متأثرا بأسطورة غجرية قديمة تعني بالسحر والعرافة وطقوس مرتبطة بتقديس القمر.

وقادني هذا الفضول ، الى تقمص دور الباحث وقررت البحث ورائها في مراجع ومقالات وتحليلات وقراءات بالإسبانية والإنجليزية والألمانية أيضا فوجدت الآتي:

أنها أغنية تجسد إحدى الأساطير السحرية القديمة في تاريخ الغجر وهي

أسطورة أمومة القمر

والحدوتة هي أن القمر في التراث الشعبي الغجري الإسباني (الخيتانوس) ، يعد عنصر مؤنث ومقدس يمارسون طقوس لإرضائها وتقديم القرابين لها. والقانون بين قبائل الغجر لا يسمح للبنات بالزواج من خارج القبيلة وخاصة إذا ما كان الرجل من قبيلة اقل شهرة ونسب غير معروف اصوله. وحدث أن أحبت فتاة غجرية خمرية البشرة من أصل روماني شاب من قبائل الكالي الغجرية ذات الأصول الآسيوية (الهند وفارس والأناضول) وبات الزواج بينهما أمرا مستحيلا. فذهبت الفتاة المغرمة في مرحلة اكتمال القمر تتوسل اليها بالرقص والبكاء الهستيري لساعات حتى بزوغ النهار كي تساعدها في الزواج بمن تحب. وبدأت القمر تستجيب لتوسلاتها وتحدثها من أعلى السماء لتخبرها أنه عليها دفع الثمن لهذه الخدمة التي تطلبها وهذا هو شرط أساسي كي تمنحها حلا لمشكلتها. وافقت الفتاة وكان القربان المطلوب منها هو أن تمنح أول ابن لها من هذا الزواج الى القمر وتتخلى عن أمومتها لهذا الطفل وتصبح القمر هي أمه. ويقال أن هذا الأمر كان بمثابة اختبار من القمر لفتاة قد تضحي بأمومتها حتى لا تبقى وحيدة بدون الحب وتتخلى عن الابن مقابل الاحتفاظ برجل تحبه.

ويتم الزواج ويولد الطفل ولكنه شاهق البياض وبمواصفات بدنية مختلفة عن الأب الغجري الـ برونزي البشرة كلون خشب القرفة، بل وولد الطفل به داء الألبينو (البهاق) وهي حالة قد تحدث نتيجة عدة أسباب وراثية من جينات متنحية للأجداد وغير ظاهرة. إلا أن القبائل الغجرية بدأت تتحاكى عن الرجل وزوجته لاختلاف بشرة طفلهما ومن ثم يتهور الأب الغجري ويقوده الجهل والقسوة الى التشكيك بشرعية الطفل واتهام الأم بالخيانة والسفاح وخصوصا بعدما يرى الناس من حولهم شكل الطفل وشعره الأشقر وعيناه الرمادية التي لا تشبه عينا والديه الزيتونية اللون وبشرته الباهتة مثل بياض فرو ابن عرس. ويبدأون في التنمر والمعايرة والسخط والسخرية من شكله.. يصل الأمر بالزوج الجاهل إلى التصديق بخيانة زوجته. ويطعنها بالسكين ويهجر الطفل في قمة جبل عالية ليلقى مصير الموت وحيدا. وهنا تتدخل القمرالحنونة وترفع الطفل المسكين بشعاع نورها الساطع ليصعد الى السماء وتكون القمر هي أمه البديلة. وبالنهاية نجد أن:

القمر كانت قادرة على العناية بالطفل لرغبتها الشديدة في أن تكون أما لطفل ، ويصل الأمر إلى أن تتحول القمر الى هلال مضئ يحمل بين ذراعيه الطفل الصغير عندما يبكي وتستطيع بذلك الشكل معانقته وهدهدته لينام ويهدأ وبعدها تعود القمر مرة ثانية لشكلها الأصلي فتصبح قمر مكتمل.

– في حين أن الأم البشرية لم يكن لديها مانع ان تبادل امومتها وحبها لطفلها الصغير مقابل ألا تكون وحيدة والحصول على رجل يشاركها الحياة ويحبها.

ولما كانت النهاية مأساوية للأم المتخلية ومنصفة للطفل الصغير، فإن القصة تعد نذير شؤم لاي استخفاف بدور الأم في حياة اطفالها وتخليها عنهم. وتسطر حكمة داخل أبيات الأغنية تقول

( سيكون قليل من الحب هو ثمن التخلي عن الابن في مقابل رجل)

وهنا تضع الأسطورة الفتاة في اختبار مؤلم وهو الاختيار الصعب بين الرغبة والحب من ناحية وحنان الأمومة ومسؤوليتها من جهة أخرى.

إقرأ أيضًا….
رحلة إسلام من “بكرة جاي” إلى التوحيد والنور والشيخ صلاح

– ونرى أيضا وجود الجهل والقسوة والعنصرية في عدم قبول الاختلاف بين البشرفي معايرة القبائل للزوج وشعوره بالخزي لكون ابنه مختلف، بينما السعادة والحب والطمأنينة لهذا الكائن المختلف- بلا أي ذنب منه – في السماوات وعند الكائنات المقدسة.

ترجمة النص الشعري من الاسبانية للعربية

هذه هي الأبيات الشعرية التي غنتها فرقة ميكانو في الثمانينات بلحن بالاد رومانسي باستخدام توليفة من الفلكلور الموسيقي الغجري والعربي المشهورة به موسيقى البوب الاسبانية عموما،. مما أعطاها شكل درامي مميز.
وقد حققت هذه القطعة الفنية نجاح هائل و أعادت غنائها مغنية الأوبرا الإسبانية الشهيرة مونتيسررات كابايى في عام 1993 وأيضا غنتها سارة برايتمان الانجليزية في عام 2000 و المطربة البلجيكية لارا فابيان بالفرنسية في عام .2006 ).
وتقول أبيات الأغنية :

إقرأ أيضا

عن دور أحمد عدوية في فيلم أنياب “رُشِّح له عادل إمام ومحمد صبحي”

الطفل الألبينو (ابن القمر)

” مغفل من لا يفهم حقا، عندما تحكي لنا الأسطورة
أن أنثى غجرية ، دأبت تتوسل للقمرفي اكتماله حتى بزغ الشروق.
بنوبات بكاء طلبت أن يتحقق لها ، الزواج من احد ابناء قبيلة كالي
واستجابت القمر من اعلى السماء وقالت، ستحصلين على الرجل الذي تتمنيه يا خمرية البشرة.
ولكن في المقابل أريد أن يكون الابن الأول من هذا الزواج لي.
واحذري أنه من يضحي بابنه من أجل رجل ، فقليل من الحب هو كل ما يجد.
…….
ايتها القمر، تريدين ان تكوني أما ، ولا تجدي الحب الذي يصنع منك امرأة ؟
اخبريني يا قرص الفضة المقدس ، بماذا يفيدك وجود طفل بشري بجانبك؟
سيكون ابن القمر .. سيكون ابن القمر..
من أب برونزي كخشب القرفة يولد طفل في بياض فراء ظهر ابن عرس
وعينان رماديتان وليست زيتونية اللون
طفل ألبينو هو طفل القمر ، وصمة كان اختلاف شكله
قال الأب :هذا الطفل ليس ابني ولن اعترف به .
………
ايتها القمر، تريدين ان تكوني أما ، ولا تجدي الحب الذي يصنع منك امرأة؟
اخبريني يا قرص الفضة المقدس ، بماذا يفيدك وجود طفل بشري بجانبك؟
سيكون ابن القمر .. سيكون ابن القمر..
مطعون بكرامته كما اعتقد الغجري في نفسه، ذهب لزوجته وبيده سكين
يسألها لمن يكون هذا الطفل ؟ من المؤكد انك خائنة
ويدب السكين في قلبها حتى الموت .
ثم يصعد التل والطفل بين ذراعيه ، ويتركه هناك وحيدا
………
ايتها القمر، تريدين أن تكوني أما ، ولا تجدي الحب الذي يصنع منك امرأة؟
اخبريني يا قرص الفضة المقدس ، بماذا يفيدك وجود طفل بشري بجانبك؟
سيكون ابن القمر .. سيكون ابن القمر..
وفي كل الليالي التي يكتمل فيها القمر يكون ذلك لأن الطفل بحالة جيدة
وفي حالة بكاء الطفل، ينكمش القمر ليصبح هلالا صانعا له مهدا. ”

خوسية ماريا كانو اندريس

نعم ، سوف تبدو لنا الأسطورة وهي تجسد القمر كأنثى، غريبة ومحيرة بعض الشئ حيث اعتدنا نحن العرب أن القمر مذكر . وفي تصوري أن تأنيث القمر وتذكريه مرتبط بثقافة المجتمع ودور المرأة فيه، ، ففي حين أن الغجر يرفعون دور المرأة لأكثر من كونها عشيقة مكملة للرجل حيث أنها أساس البيت والاسرة وحماية الأبناء والاستقرار المفقود في بيئتهم المتنقلة وقد يحدث أن يخرج الرجال بلا عودة وتستمر الأم في رعاية أولادها وتنشئتهم وحدها بكل قوة وبطولة . فكانت رمزية القمر عندهم للكائن الاكثر تحمل واستقرار . ثم نجد في مجتمعات عربية قديمة تقدم الرجل ليحتل الصدارة ويصبح هو القائد، ويحول كل شيء مهم حوله إلي ذكر، ويتم الاحتفاظ للأنثى بكثير مما يُشير إلي ضعفها وجمالها ونعومتها وتبعيتها للرجل، وهو الموروث الثقافي لدى الجماعات الشرقية بشكل عام.

وقد يخرج البعض متسائلا ، لماذا يعتبر العرب ان الشمس انثى؟ وفى ذلك السياق نود الاشارة الى ضعف دور الشمس مقارنة بالقمر نظرا لأهميته خاصة لدى الصحراويين حيث هو مرشدهم، ودليلهم، وقبلة حساباتهم الفلكية لدورة السنة القمرية ورحلات التجارة وكذلك له أهمية لدى الشعوب التي تعتمد على الصيد وحركة القمر تؤثر على البحر والمد والجزر.
وسواء كان القمر أنثى أم ذكر فإن جمالياته فى الشعر والأدب لن تختلف، وإن كان اختلاف الرؤية يكشف لنا عن علاقة الأجداد الأوائل بما يحيط بهم من مكونات البيئة والطبيعة.