همتك نعدل الكفة
93   مشاهدة  

المجتمعات المتجاذبة بين العلم والشعوذة

المجتمعات


في خضم التحولات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها المجتمعات المعاصرة، تبرز ظاهرة مثيرة للاهتمام والقلق في آن واحد: الميل المتزايد نحو الدجل والشعوذة والغيبيات في المجتمعات الحديثة، خاصة في أوقات الإحباط المجتمعي العام، هذه الظاهرة، التي تبدو للوهلة الأولى متناقضة مع التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يشهده عالمنا، تستدعي دراسة عميقة لفهم أسبابها وتداعياتها.

يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على العلاقة المعقدة بين عوامل اجتماعية شتي وانتشار الأفكار الخرافية، مع التركيز بشكل خاص على دور التعليم، عن طريق استعراض آراء الفلاسفة والمفكرين البارزين في هذا المجال، نسعى إلى تقديم تحليل شامل يساعد في فهم هذه الظاهرة وتقديم رؤى حول كيفية مواجهتها.​​​​​​​​​​​​​​​​

الهروب من الواقع والبحث عن الأمل

إريك فروم
إريك فروم

يرى الفيلسوف الألماني إريك فروم أن الإنسان في المجتمعات القمعية يعاني من “الخوف من الحرية”، هذا الخوف يدفعه للبحث عن ملاذ آمن، حتى لو كان وهميًا، الدجل والشعوذة توفر هذا الملاذ، حيث تقدم وعودًا بحلول سحرية لمشاكل واقعية معقدة.

الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يؤكد على مفهوم “سوء النية”، حيث يختار الفرد الهروب من مسؤولية حريته واختياراته، في المجتمعات الشمولية، حيث تُقيد الحريات، يصبح اللجوء إلى الغيبيات شكلا من أشكال الهروب من مواجهة الواقع المرير.

غياب التفكير النقدي:

جون ديوي
جون ديوي

الفيلسوف الأمريكي جون ديوي يؤكد على أهمية التعليم في تنمية التفكير النقدي، في المجتمعات الشمولية، حيث يتم تقييد حرية الفكر والتعبير، يصبح من الصعب تطوير هذه المهارات الحيوية، نتيجة لذلك، يصبح الأفراد أكثر عرضة لتصديق الأفكار الخرافية والحلول السحرية.

الحاجة إلى الشعور بالسيطرة:

إيريك هوفر
إيريك هوفر

عالم النفس الاجتماعي إريك هوفر يشير في كتابه “المؤمن الصادق” إلى أن الأفراد في الأوقات العصيبة يميلون إلى الانجذاب نحو الأيديولوجيات المتطرفة أو الأفكار الغيبية كوسيلة لاستعادة الشعور بالسيطرة على حياتهم، في المجتمعات الشمولية، حيث يشعر الأفراد بالعجز أمام سلطة الدولة، قد يوفر الاعتقاد في قُوَى خارقة للطبيعة شعورًا زائفًا بالقوة والسيطرة.

الفراغ الروحي والفكري:

فريدريك نيتشه
فريدريك نيتشه

الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه تحدث عن “موت الإله” في المجتمعات الحديثة، مشيرًا إلى الفراغ الروحي الذي يتركه غياب المعتقدات التقليدية، في المجتمعات الشمولية، حيث يتم غالبًا قمع الأديان التقليدية أو السيطرة عليها، قد يلجأ الأفراد إلى أشكال بديلة من الروحانية، بما في ذلك الممارسات الغيبية والشعوذة.

تدني مستوى التعليم وغياب الاهتمام بالمنطق والفسفة:

أرسطو
أرسطو

الفيلسوف اليوناني أرسطو اعتبر أن الفلسفة هي أم العلوم وأساس التفكير السليم، غياب تدريس الفلسفة في المراحل الأولى من التعليم يحرم الطلاب من أدوات التفكير النقدي والتحليلي الضرورية لفهم العالم من حولهم.

الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو يرى أن المعرفة هي قوة، وأن السلطة تسعى دائمًا للسيطرة على إنتاج المعرفة في المجتمعات الشمولية، يتم توجيه التعليم لخدمة أهداف النظام بدلاً من تنمية الفكر النقدي للأفراد؛ هذا يخلق بيئة خصبة لانتشار الأفكار الخرافية والممارسات الغيبية.

الإحباط المجتمعي والبحث عن الخلاص:

ماكس فيبر
ماكس فيبر

عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر تحدث عن مفهوم “إزالة السحر عن العالم” في المجتمعات الحديثة، ومع ذلك، في المجتمعات الشمولية التي تعاني من إحباط عام، قد يحدث العكس – أي “إعادة تسحير العالم” -. الأفراد المحبطون يبحثون عن تفسيرات وحلول تتجاوز العقلانية والمنطق، مما يقودهم إلى الدجل والشعوذة.

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يؤكد على أهمية “المجال العام” كفضاء للنقاش الحر والتفكير النقدي، في المجتمعات الشمولية، حيث يتم تقييد هذا المجال، قد تصبح الممارسات الغيبية بديلاً للحوار المجتمعي الحقيقي.

العلاقة بين الشمولية والخرافة:

حنة آرنت
حنة آرنت

الفيلسوفة الأمريكية حنة آرنت في كتابها “أصول الشمولية” تشير إلى أن الأنظمة الشمولية تعتمد على خلق “واقع بديل” يتحدى المنطق والعقل، هذا المناخ يسهل انتشار الأفكار الخرافية والممارسات الغيبية، حيث يصبح من الصعب على الأفراد التمييز بين الحقيقة والوهم.

إقرأ أيضا
شقو

دور وسائل الإعلام والتكنولوجيا:

جان بودريار
جان بودريار

الفيلسوف الفرنسي جان بودريار تحدث عن “فرط الواقع” في عصر الإعلام الجماهيري، في المجتمعات الشمولية، حيث تسيطر الدولة على وسائل الإعلام، يمكن استغلال هذه الوسائل لنشر الأفكار الخرافية والممارسات الغيبية كوسيلة للتحكم في الجماهير وإلهائها عن القضايا الحقيقية.

أخيرًا، إن انتشار الدجل والشعوذة والغيبيات في المجتمعات الشمولية هو نتيجة معقدة لعوامل متعددة، تشمل القمع السياسي، وتدني مستوى التعليم، وغياب التفكير النقدي، والإحباط المجتمعي العام، إن غياب تدريس الفلسفة في المراحل الأولى من التعليم يحرم الأفراد من أدوات فكرية ضرورية لفهم العالم وتحليله بشكل نقدي.

لمواجهة هذه الظاهرة، يجب العمل على تعزيز التعليم النوعي الذي يركز على تنمية التفكير النقدي، وإدخال الفلسفة في المناهج الدراسية منذ المراحل الأولى، وتشجيع الحوار المجتمعي الحر، فقط من خلال تمكين الأفراد فكريًا وثقافيًا يمكن مواجهة تحديات المجتمعات الشمولية والحد من انتشار الأفكار الخرافية والممارسات الغيبية.​​​​​​​​​​​​​​​​

المصادر
  1. فروم، إريك. (1941). الخوف من الحرية. نيويورك: فاررار وراينهارت.
  2. سارتر، جان بول. (1943). الوجود والعدم. باريس: غاليمار.
  3. ديوي، جون. (1938). الخبرة والتربية. نيويورك: ماكميلان.
  4. هوفر، إريك. (1951). المؤمن الصادق: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية. نيويورك: هاربر آند برذرز.
  5. نيتشه، فريدريش. (1882). العلم المرح. ترجمة وتحقيق: جمال مفرج. بيروت: منشورات الجمل.
  6. أرسطو. (القرن الرابع قبل الميلاد). الميتافيزيقا. ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام. القاهرة: مكتبة مدبولي.
  7. فوكو، ميشيل. (1969). حفريات المعرفة. باريس: غاليمار.
  8. فيبر، ماكس. (1919). العلم والسياسة بوصفهما مهنة. ميونيخ: دونكر آند هومبلوت.
  9. هابرماس، يورغن. (1962). التحول البنيوي للمجال العام. فرانكفورت: سوركامب.
  10. أرندت، حنة. (1951). أصول الشمولية. نيويورك: شوكن بوكس.
  11. بودريار، جان. (1981). محاكاة. باريس: غاليلي.
  12. برلين، إيزايا. (1958). مفهومان للحرية. أكسفورد: كلارندون برس.
  13. غرامشي، أنطونيو. (1971). دفاتر السجن. نيويورك: انترناشيونال بابليشرز.
  14. أدورنو، ثيودور. (1950). الشخصية التسلطية. نيويورك: هاربر آند رو.
  15. فانون، فرانز. (1961). معذبو الأرض. باريس: ماسبيرو.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
2
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان