همتك نعدل الكفة
388   مشاهدة  

الميت الحي .. قصة نادرة بقلم سليمان نجيب

الميت الحي .. قصة نادرة بقلم سليمان نجيب


سليمان بك نجيب.. اسم لمع في سماء السينما المصرية وقت أن كانت تذخر بنجوم لا حصر لها، وتميز بأدء بسيط سلس جعله قريبا من قلوب المشاهدين، حيث ترتسم البسمة على وجوههم بمجرد ظهوره على الشاشة.

وإلى جانب الموهبة التمثيلية وخفة الدم التي شهد بها الجميع، كان سليمان نجيب يمتلك موهبة أخرى وهي الكتابة، حيث كتب حوالي 11 فيلما، إلى جانب سلسلة مقالات ساخرة بعنوان مذكرات عربجي، نشرها في كتاب حمل الاسم نفسه.

الميت الحي .. قصة نادرة بقلم سليمان نجيب
الميت الحي .. قصة نادرة بقلم سليمان نجيب

ومن ضمن ما كتبه باشا السينما المصرية الشهير، قصة قصيرة نادرة نشرتها مجلة الإثنين والدنيا في عددها الصادر بتاريخ 25 يونيو عام 1945 تحت عنوان “مات.. قصة العدد بقلم سليمان بك نجيب” والتي كانت كالتالي:

 

  • ألو.. منزل سعادة فلان باشا؟
  • أيوة يا أفندم
  • اسمع يا سيدي خد الإشارة دي من القصر العيني وبلغها للباشا.. فتح ودانك كويس “توفى اليوم الساعة السادسة قريبكم فتحي أفندي توفيق المريض بالمستشفى من أربعة أشهر إثر كسر ساقه اليمنى وإصابته بالحمرة. وكانت الوفاة نتيجة تسمم في الدم، والجثة في صالة الأموات”.

وإليك شرح هذه الإشارة كما نعتها موظف التليفون في المستشفى، قصة هذا الشاب الذي قضى في شرخ شبابه، والذي نقل خبر وفاته إلى عائلته في سبتمبر سنة 1926، وبهذه البشاطة والجفاف الرسمي، ليتفضلوا باستلام جثته في اليوم التالي.

 

في يوم من أيام مايو الحمراء -ومايو حين تشتد حرارته في القاهرة كأنه قطعة من جهنم- كان الأستاذ فتحي توفيق المهندس الزراعي والمنتدب من وزارة الزراعة للعمل كمراقب في المعرض الزراعي الصناعي الذي كان قائما بسراي الجمعية الزراعية، عائدا من مقر عمله في الساعة الواحدة، راكبا الموتوسيكل أمام نادي محمد علي، وبينما هو سائر دهمته سيارة مقبلة قاصدة شارع البستان.

 

أقول دهمته لأن السائق كان مسرعا وغلطته ظاهرة، حتى أن كونستابل المرور الذي تصادف وجوده وقتئذ قرر في شهادته أن السائق مسؤول إلى أبعد حد، فلو كان موعزا له أن يرتكب ما حدث فلن يؤدي مهمته خيرا مما فعل.

 

واجتمع المارة كعادتهم في مصر، ونقل المجني عليه إلى رصيف الشارع وهو مندهش مغتاظ مما حدث، فقد قدَّر -والشباب كبير الأمل دائما- أن الحادث لا يعدو خدوشا بسيطة، ولكنه حينما حاول القيام سقط مرة أخرى لأن ساقة اليمنى كانت قد كسرت تماما، وحملته سيارة الإسعاف إلى مستشفى القصر العيني، وحرارة القيظ تكاد تخنقه، وفداحة الألم تكاد تقضي عليه.

 

وهناك اعتنى به طبيب من أصدقائه، فوضع سريره في غرفة مستقلة، وقاموا جميعا بواجبهم لتهدئته، ولك أن تعزو ذلك إلى مركزه عائليا، أو إلى عنايته ورعايته لإخوانه زوار المعرض، فقد كان فتحي بشبابه وأخلاقه وروحه المرحة يبعث في أنحاء المعرض مرحا مستديما.

 

ومرت أيام وليال وأشهر، بدأت بعدها هذه الحادثة البسيطة تضايق بتطوراتها أطباءه ومريديه وأصدقاءه، وقد كان في إمكانه أن يطلب الانتقال إلى مستشفى خاص  وعلاج من اختصاصي، لكنه فضل البقاء لما شعر به من عناية ورعاية.

 

لقد كان موضع اهتمام ثلاثة من كبار أطبائنا، وكانت رئيسة الممرضات مس أندرسون، تلك العجوز الإنكليزية الطيبة، تحنو عليه كأنه ولدها، ولكن ما الحيلة وما الطب والعناية أمام قضاء الله، فقد تحمل أكثر من عشر عمليات أغلبها بدون البنج والمسكنات لأن القلب بدأ يضعف.

 

وكم قطع منديله بين أسنانه ليظهر بمظهر المتحمل وهم يدقون عظمة ساقه بالشاكوش لأن العظم لم يستقم لحامه. وأصيب بالحمرة، وأخيرا تسمم الدم، ووقف أطباؤه أمام سريره يوم ثلاثاء بعد الظهر والنبض يتدهور، والقلب يخفت إلى أن سكن، وقالوا “آسفين.. مات رحمه الله”، وخلع التمرجب بجامته ووضعه في ملاءة بيضاء ونقل إلى صالة الموتى، وعلى منضدتها العالية وضع هذا الشاب الذي كان حركة مستمرة فأصبح جثة هامدة”.

 

إلى هنا يقول البعض ما هذه القصة العادية التي كتبها سليمان نجيب، وما الغرض منها، لكن المفاجاة كانت في الجزء الثاني من القصة، حيث كتب سليمان على لسان كبيرة الممرضات الإنجليزية:

 

إقرأ أيضا
الونس

“كنت في هذا اليوم، ومن الساعة الثامنة صباح في إجازة الأسبوع، قضيته في شراء بعض لوازمي وتغديت وتعشيت مع صديقة لي في مصر الجديدة، وشاهدنا فيلما بديعا في إحدى دور العرض الصيفية، وأوصلتني في سيارتها إلى القصر العيني الساعة الواحدة، وقبل أن أصل إلى غرفتي في بيت الممرضات، خطر لي أن أزور ولدي فتحي كما كنت أسميه، فاتجهت إلى المستشفى وقصدت غرفته، فإذا بها هادئة مظلمة، وقد تعود أن ينام دون أن يطفئ النور، وقابلتني ممضرة من خدمة الليل واخبرتني أنه مات، مات الساعة السابعة ونقل إلى صالة الموتى.

 

تضايقت وتألمت، تضايقت لغيابي أثناء موته، وتألمت لهذا الشاب المتألق ينطفئ هكذا، ولكني صممت أن أزوره، أن أراه ولو جثة هامدة، أن أقول له ولو أنه لا يسمعني (إلى الملتقى.. هذا سبيل كل حي)، وتقدمني الممرض ودخلت صالة الأموات، وفتحت النور ونظرت إليه وبكيت وأحنيت رأسي أمام جلال الموت.

 

والتفت لأغادر الغرفة ولكني أحسست أن هنالك شيئا غير عادي، نعم إهمال استلفت نظري فعدت إلى الجثة فصدق حدسي، فالتفت إلى الممرض ونبهته إلى أن الواجب يقضي بوضع يدي الميت على صدره، فلماذا أهمل وضع يده اليمنى التي كانت خارج الملاءة، ونظر إلي الرجل مؤكدا أنه لم يقصر في وضه اليدين على صدره.

 

وقلت في نفسي أيمكن.. أهو.. وقفزت إلى مقعد فحملته ووقفت عليه لأصل إلى فحصه، وضعت يدي على نبضه وتسمعت فإذا بالقلب يدق في بطء، يدق أربع أو خمس دقات في الدقيقة، ولم أدر ما صنعت، فقد استخفني الفرح فضحكت وبكيت، وحملته إلى سريره وخالفت أوامر المستشفى فأعطيته ما استطعت من حقن، عشر عشرين بل أكثر، وعرف أطباؤه ما حدث فجددوا علاجهم ونشاطهم ومجهوداتهم، ومرت أيم وهو في عالم آخر، غذاؤه نقط الشمبانيا وبعض الحقن، وفي مساء الأربعاء، وفي تمام الساعة الثامنة، فتح هذا المتعب المقلق لراحتي وراحة الأطباء والأصدقاء عينيه، وبصوت ضعيف قال لي:

  • كم الساعة يا سيدتي

وتعمدت أن أجيبه قائلة:

  • اليوم الأربعاء والساعة الثامنة
  • هيه لقد نمت كثيرا.. 24 ساعة
  • أربع وعشرون ساعة! لقد نمت أسبوعا وأربعا وعشرين ساعة، هس لا تتكلم، اهدأ واسترح فقد مر الخطر”.

سليمان نجيب

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
1


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان