مات يوم عيد الأقباط والمسلمين.. الأيام الأخيرة في حياة بيرم التونسي
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
لخص الشاعر بيرم التونسي حياته، قائلًا، الأوله: مصر، قالوا تونس ونفوني، الثانية: تونس، وفيها الأهل جحدوني، والثالثة: باريس، وفي باريس جهلوني!
“محمود بيرم” تونسي الأصل من ناحية أجداده ووالده، ومع ذلك لم يعتبر أهل تونس من أهلها، لذا رفضوا أن يقيم بينهم أثناء محنته التي قضاها منفيًا لمدة 20 عاما، وفي باريس ومدن فرنسا التي وصلها مطرودا من مصر بسبب مواقفه ضد الملك والاحتلال البريطاني، أهملوه، وخلال الـ20 عام التي قضاها هناك ماتت أحاسيسه، وغلبه الحنين لمصر، حتى عاد إليها هاربا من المنفى.
عندما كان يُسأل بيرم التونسي عن جنسيته، يقول، أنه مصري 100 في المائة، لكن جده لأبيه كان تونسيا وجاء إلى مصر عام 1833 في عهد محمد علي الكبير، وأمه مصرية خالصة، اسمها نجية عبد الخالق أبو شال، وأسرة والده كانت تملك رمل الإسكندرية ابتداء من قهوة “اتينيوس” بميدان سعد زغلول إلى محطة فيكتوريا طولا وعرضا، أما والده فكان يمتلك مصنعا للنسيج استولى عليه أبناء عمه بعد وفاته في عام 1906.
عاش بيرم التونسي ظروفًا إجتماعية صعبة، في فترة حياته المبكرة، بعد اكتشاف أمه مصادفة زواج والده من راقصة، وأنه كان يقيم معها في منطقة بعيدة عنهم في “الأزاريطة” إحدى ضواحي الإسكندرية آنذاك.
وترددت إشاعة وقتها، أن موت والده كان عن طريق السم البطيء على يد هذه الراقصة طمعا في أمواله التي كان يربطها في حزام على وسطه.
كان لموت والده وقعًا سيئًا على حياته وعلى أسرته، فلم يترك لهم أموالًا يعيشون منها، حتى المصنع الذي ورثه “بيرم” استولى عليه أبناء عمه بلا مقابل.
لم ينقذ “بيرم” من هذه المشكلات الاجتماعية التي واجهها وهو في سن الثانية عشرة من عمره سوى القراءة والاطلاع، فقد بدأ تأليف الأشعار وبدأ عمله في البقالة “بقالًا”. وكانت الكتب التي يستعملها في لف البضاعة هي المصباح السحري الذي نقله لعالم الأدب.
ازدادت حياته تعقيدًا، وقتها، فقد تزوجت والدته من أحد أقاربها، فأخذه زوجها ليساعده في صناعة “هوادج الجمال”، وكان عملًا شاقًا، يقول “بيرم”:” كنت أشيل أثقالًا على ظهري، ولهذا ربت لي هذه الصنعة أكتافًا وعضلات فيما بعد في حياة الشقاء التي عشتها في فرنسا في المنفى”.
ولم ينقذه من هذا العمل الشاق، سوى وفاة زوج والده عام 1910، كما تزوج “بيرم” من ابنة تاجر عطارة، بعدما توغل في تجارة البقالة والسمن.
كانت أول قصيدة يكتبها بيرم التونسي ضد المجلس البلدي الذي طالبه بضرائب عن منزله عن سنوات لا يعلم عنها شيئًا، ونشر هذه القصيدة في جريدة الأهالي، بل نشرها في كتاب باعه بـ5 مليمات، وانتشر الكتاب وبيع منه 100 ألف نسخة، وبهذا أصبح الأدب وسيلة للرزق، ثم بدأ في نشر كتيبات صغيرة أنتقد فيها العادات الاجتماعية، حسبما يقول حنفي المحلاوي في كتابه “الأيام الأخيرة في حياة هؤلاء”.
عاني بيرم التونسي في أيامه الأخيرة من مرض الربو ومن الأمراض التي أصابته في الغربة.
اشتدت آلام الربو عليه منذ عام 1954، نتيجة لكثرة سهره وإسرافه في التدخين.
يقول شهود عيان الأيام الأخيرة، أن بيرم التونسي عاش مريضًا في منزله رقم “2” بحارة النناوي بشارع السد البراني بحي السيدة زينب، بعدما رد زوجته إلى عصمته بعد أن انفصل عنها في المنفى، وطلقها أثناء عيشه في فرنسا عن طريق المراسلة، ولما توفى زوجها الإسكندراني أعادها إليه، وعايش معها بحي السيدة زينب، وأنجب منها ولدين هما محي الدين وأيمن.
يقول كمال أسعد أحد أصدقاء “بيرم”، أنه قبل وفاته بعام واحد، كان موعده معه في مقهى بالسيدة زينب، وفي هذا اللقاء حدثه “بيرم” عن حياته وأيام شبابه التي ضاعت بلا ثمن في المنفى ما بين ليون وباريس وتونس ودمشق وبيروت وسوريا.
حدثه بيرم التونسي عن هذه الأيام بمرارة عن الناس الذين اتصل بهم في أزماته وأساءوا إليه، وعن الحاقدين الذين كانوا يتطلعون بالإبلاغ عنه للتخلص من موهبته بأسهل الطرق، وكان أثناء كلامه يضرب بيده على صدره قائلًا:”أنا صحتي بومب، زي ما أنت شايف”.
في يوم وفاته دخلت غرفته في الصباح زوجته “إحسان” فوجدته في حالة يرثى لها، كان صوت السعال لا ينقطع من فمه، والكلام لا يخرج من تحت لسانه إلا ثقيلًا ووجه أصفر باهت لا حياة فيه.
أصيبت “إحسان” بحالة من الجزع والحزن لم تحتملها، فطلبت ابنته “عايدة” التي جاءت مع زوجها التاجر محمد محفوظ، وتدخل في الوقت نفسه إحدى جارتهم، لتقول لزوجة “بيرم:”البركة فيكي وفي الأولاد، دي حالة موت”.
فزعت الأسرة، فأرسلت “إحسان” تطلب ابنته الأخرى “نعيمة” كما أرسلت تلغرافًا إلى ابنه “محمد” في الإسكندرية، ويصل الجميع ليموت “بيرم” على أيديهم ظهر يناير من عام 1961، بعدما طلب كوبا من الماء، وتصادف في هذه التوقيت ليلة ميلاد الأقباط وعيد الفطر للمسلمين.
سار في الجنازة مجموعة من الناس، ليس بينهم من الفنانين سوى بديع خيري وأحمد رامي وزكريا أحمد ومحمود الشريف ورياض السنباطي ومحمد القصبجي وأحمد صدقي.
وصل النعش إلى مقابر باب الوزير، حيث دفن هناك في مدفن البكباشي محمد عارف، وهو جد سعيد راتب زوج ابنة “بيرم”.
الكاتب
-
محمد احمد
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال