
جدل الصوت والعمر :هل يجب على هؤلاء اعتزال الغناء؟

-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
يواجه المطربون مع تقدمهم في العمر معضلة وجودية حقيقية؛ الاستمرار في العطاء الفني رغم تحولات الصوت من القوة إلى الضعف، أم اعتزال الغناء للحفاظ على مكانتهم في ذاكرة الجمهور؟ هذه المعضلة تزداد تعقيدًا بسبب طبيعة المبدع الذي غالبًا لا يمتلك سن تقاعد محدد بالإضافة إلى رفض فكرة التوقف عن الإبداع لمجرد التقدم في السن.
لا توجد حلولًا قاطعة جازمة تحسم هذا الجدل فقرار التوقف نفسه صعب جدًا خصوصًا مع الفنان النجم الذي اعتاد العيش على الابداع وتحت سلطة الأضواء والنجومية والشهرة ولا يجد في كبر سنه أو تدهور حالته الفنية حجة قوية لمنعه من الإبداع والمبدع بطبيعته حساسًا تجاه رأي الجمهور والنقاد لا يريد التعامل معه كـ خيل الحكومة يجب التخلص منه إذا تدهورت إمكانياته الجسدية أو قدراته الصوتية بالإضافة إلى الضغوط المادية التي قد تمنعه من الاعتزال “بعضهم مرتبط بعقود وبعضهم يعتمد بشكل كلي على الفن في معيشته” وبالتالي على الجمهور التماس العذر وخفض سقف توقعاته تجاه الفنان ولا يتعامل معه وكأنه لازال في أيام مجده الفني حتى مع إصرار هذا الفنان على معاندة الزمن.
لكن في حالات فنية بعينها قد يكون الاعتزال هو الخيار المثالي حيث يعاني الفنان من تدهور شديد في قدراته الصوتية أو حتى على مستوى الاختيارات الفنية خصوصًا لو امتلك نجومية شديدة وصورة ذهنية لامعة لدى الجمهور فالأولى هو محاولة الحفاظ عليها وعدم المجازفة بخسارة جزءًا كبيرًا من شعبيته وهي الحالات التي قد تنطبق على الثلاثي الكبير “على الحجار، محمد منير، جورج وسوف” الذين أثروا الساحة الفنية لعقود طويلة ومع تقدم العمر بدأ منحنى الصوت في تراجع وتدهور شديد مع تكرار ظهورهم الباهت في الأونة الاخيرة فهل تلك الأمور تستدعي التفكير في الاعتزال والتقاعد محتفظين بمكانتهم وإرثهم الفني الضخم.
على الحجار : الافتتان بالصوت للأبد
ظهر الحجار في فترة زمنية مرتبكة جدًا فنية، رحيل ام كلثوم ثم عبد الحليم نتج عنه انتهاء عصر الأغنية الطويلة وبدايات ما عرف بالأغنية البديلة التي حلت محلها وكان الحجار أبرز وجوهها، امتلك الحجار تجربة شديدة التفرد جمعت بين حلاوة وقوة الصوت وبين العمق في الاختيارات بالإضافة إلى قدرته على الجمع بين الأصالة “التعاون مع ملحنين كبار مثل بليغ حمدي، سيد مكاوي” او استيعاب الموجات الغنائية الجديدة “مودي الإمام،هاني شنودة”.
قدرات على الحجار الفذة جعلته مطعمًا لأغلب الصناع المهمين ليس ذلك وحسب بل أن أغلب من تعاون معهم وجد في صوته اّلته الخاصة فمثلًا نجد عمار الشريعي يتعامل معه وكأنه اّلته المفضلة “العود” من حيث القدرة على الجمع بين التطريب والتعبير أو تجده صوته هادئًا حالمًا ينساب بكل سلاسة وكأنه بيانو عمر خيرت الرقيق أو ينفعل ويعبر بقوة وعنفوان مثل كمان ياسر عبد الرحمن، تلك العوامل منحت الحجار تنوعًا مدهشًا في مسيرته الفنية الضخمة وتراكمت لديه خبرات واسعة جدًا لكن هل يستغل الحجار تلك الخبرات الأن؟
في الفترة الأخيرة دخل الحجار في صراع حول مشروع 100 سنة غنا والذي ظفر به في النهاية وأقام العديد من الحفلات الفنية التي يحتفي فيها بنجوم الطرب القدامى، رغم الإقبال الجماهيري الجيد نسبيًا على بعض الحفلات إلا أن أداء على الحجار يعاني من تدهور واضح في ظل إصراره الشديد على أن يكون هو نجم الحفلات الأول واختيار بعض الأغنيات الصعبة نسبيًا وهو لا يدرك أنه فقد الكثير من المميزات في صوته بحكم السن مع الغناء من طبقة غير مريحة لصوته و لأذن المستمع ولا يدرك أن هذا الصوت الذي كان في قمة عنفوانه وهو في سن العشرين لم يعد نفس الصوت وهو في سن السبعين.
ايضًا على مستوى المسيرة الفنية لم تنجح أغنية له منذ اغنية “الزين والزينة” أوائل الألفية والتي نجحت كونها أصبحت طقس ثابت في أغلب الأفراح عدا ذلك إنتاجه الجديد لم يسمع به أحد لأسباب كثيرة منها ضعف الترويج له لكن السبب الرئيسي الذي لن يعترف به هو أن تلك الاختيارات لم تضيف إليه أي شئ جديد لا فنيًا ولا جماهيريًا وبعضها يسحب من رصيده لدى الجمهور وظلت أغنياته القديمة هي التي تحتل المساحة الأكبر في برنامج حفلاته لأنه يدرك أن أغنياته الجديدة لم تحدث فارقًا في مسيرته.
لم يستغل الحجار مشروع 100 سنة غنا كي يقدم لمصر و للجمهور أصوات جديدة قادرة على أداء بعض الأغنيات التي لن يسعفه صوته على أدائها أو حتى يقدم نفسه بطريقة أداء جديدة لكنه استغل المشروع كي يقدم نفسه نجمًا وحيدًا معززًا صورته الشخصية فقط ويبدو أن العند والكبر والغرام الأبدي مع حنجرته يسيطرون عليه ويرفض الاعتراف بتراجع صوته ولا يفرق بين الإعجاب الفني وبين الشفقة فأغلب الجمهور يصفق احترامًا لذكرياتهم معه لا لأن أداءه مازال متميزًا وعظماء الفن يعرفون متى يغيرون مسارهم أو يتراجعون بكرامة وإذا استمر في تجاهل الواقع فسيخسر مكانته التاريخية.

محمد منير: بين عبقرية الماضي وأزمة الحاضر
منذ ظهوره في السبعينات وحتى أوائل الألفية الجديدة، كان منير أكثر من مجرد مطرب ، كان ظاهرة فنية فريدة بطريقة أدائه المختلفة و كاريزمته المسرحية واختياراته الموسيقية الجريئة صنع مسارًا مختلفًا عن السائد محافظًا على توازن نادر الحدوث بين الشعبية والعمق الفني،دعونا نتفق أن التجربة في مجملها لم تكن مجرد تجربة مطرب يمتلك صوت “حليوة” بل كان أداة تعبير عن رسائل عميقة ومختلفة كتبها أهم شعراء العامية في مصر مع تناول موسيقي مبتكر وجديد على سوق الغناء المصري بالإضافة إلى حفلاته التي كانت طقوسًا فنية فريدة يتوحد فيها مع جمهوره وكأنه صوتهم القادر على التعبير بدلًا منهم
لكن في السنوات الأخيرة بدأت ملامح هذه التجربة العظيمة في التاّكل فقد منير جوهره الفني وتحول إلى نسخة شاحبة من نفسه حيث شهدت تراجع على مستوى الأداء الصوتي والمهني من خلال الأخطاء المتكررة في حفلاته أصبح ينسى كلمات الأغاني ويخلط بين بعضها لم يعد قادرًا على أداء جملة لحنية واحدة صحيحة لم يعطي اهتمامًا كافيًا بصحته التي تدهورت ودخل في سلسلة من الوعكات الصحية أثرت على صوته وطريقة أداءه حتى داخل الأستديو أصبح يحتاج إلى تعديلات تقنية كثيرة لتحسين صوته.
لم يقف الأمر حد انهيار الصوت فقط منير الذي كان يهاجم في السابق الاستسهال التجاري وشلة السوبر ماركت الغنائي أصبح الآن يسير في نفس الطريق لم تعد أغنياته تطبخ في مطبخ خاص من نصوص وموسيقى مبتكرة تحول إلى منتج تجاري يعتمد على أغنيات تشبه أغاني الإعلانات مثل أغنيته الأخيرة “ملامحنا” التي تعيد انتاج أفكار قدمها في السابق بل وبشكل ركيك على مستوى الكلمات والموسيقى وأصبحت أغنياته معلبة بلا روح ولو عرضت تلك الأغنيات عليه سابقًا لسخر منها ومن صناعها.

صنع منير تاريخًا غنائيًا لا ينسى بل يكاد يكون الأهم في اخر 50 عامًا لكن استمراره بهذا الشكل وبتلك الطريقة يهدد مكانته كأسطورة، فالجمهور دائما ما يتذكر الأفضل ولا عجب في أن أغنياته الأولى مثل “شبابيك، شجر الليمون” لازالت تلقى صدى واسعًا ولا ينساها الجمهور عكس أغنياته الجديدة التي لن يتذكرها بعد أسبوع من صدورها، لقد اعطانا منير اجمل ما سمعناه في حياتنا وصنع ذاكرة جماعية لا تقدر بثمن لكن الفن الحقيقي يحتاج إلى الشجاعة شجاعة أن تعرف متى تتوقف وألا تدع استمرارك يمحو عظمة ما قدمته في السابق اعتزال الغناء اليوم سيكون احترامًا لتاريخك وليس هزيمة أو هروبًا.
جورج وسوف : إهلاك الصوت حتى آخره
ظهر جورج وسوف في الرياض في حفل ألحان الموسيقار صلاح الشرنوبي في 2024 وهو مستندًا على عكازه تخرج الكلمات من فمه بصعوبة بالغة وهو يغني رائعته “يا بياعين الهوى”، أدرك تمامًا أن ظهوره كان نابعًا من رغبته في المشاركة في تكريم أحد رفقاء دربه الذي صنع معه أحلى أغنياته لكن هل هذا الظهور كان يليق بمن لقب بـ سلطان الطرب وأحد وحوش الغناء على المسرح.

منذ مرض جورج الأخير وأزمة رحيل ابنه “وديع” وأصبح جورج يتحدث بصعوبة جدًا وظهر هذا بوضوح في ظهوره مع إسعاد يونس في برنامج صاحبة السعادة أو ظهوره في بودكاست “Big Time” مع عمرو أديب وأصالة حيث لم يفهم المشاهد أغلب ما نطق به وهي امور أدرك تمامًا أنه لا دخل له بها لكن ما بالك في أن يعود إلى الغناء مرة أخرى في ظل عدم قدرته على التحدث بسلاسة.
لا اعرف ماذا يدور في ذهن جورج وسوف الرجل الشغوف بالغناء حتى الثمالة لكن ما أدركه أن ماكينة الإنتاج الفني بلا قلب تتعامل وفق منطق تجاري بحت لا تستند على أية مشاعر هي تريد حلب الفنان حتى آخر قطرة فيه دون رحمة أو شفقة لا يهمها أن الفنان في حالة صحية لا تسمح له بممارسة الغناء لكن يجب عليها استغلال شهرته وصيته حتى النهاية، ومن حقنا كجمهور محب لسلطان الطرب أن نقول له أنت لست بحاجة لإثبات أي شئ فقد أديت أكثر من المطلوب منك.
الاعتزال شجاعة وليس هروبًا
لم أكن أريد أن أكون قاسيًا على الثلاثي الكبير على الحجار ، محمد منير، جورج وسوف لكن كان هدفي هو الحفاظ على صورتهم الكبيرة التي بذلوا من أجل صنعها الكثير لكن الاستمرار في العزف على أوتار مهترئة لن يضيف إلى مجدهم شيئًا بل سيحولهم بمرور الوقت إلى أشباح وهم ليسوا بحاجة لإثبات أي شئ حيث قدموا للفن العربي ما يكفي خلودهم وأن اعتزال الغناء في هذا التوقيت شجاعة وليس هروبًا.
روتانا والاصوات المصرية : تاريخ من الاستحواذ والتجميد والخلافات المتكررة
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
ما هو انطباعك؟







