همتك نعدل الكفة
444   مشاهدة  

عن عبد السيد الذي صار عبد أحمد .. المسلم المسيحي الفقير

عبد أحمد


الحق الحق أقول لكم: بدأت شرب سجائر في إجازة خامسة ابتدائي، كان عمري 10 سنوات وكام شهر. لكني بدأت التدخين من الزاوية الأكثر صعوبة، على يد المعلم رشدان (محمود طوطح صديق المصائب زمان).

ذهبنا إلىغرزةتسمي نفسهاقهوة، في دار الرماد خلف مقام الشيخة خضرا. الحقيقة ارتبكت، فالمقام بنته أم جدي لـالشيخة خضرا، كما بنت قبلها مقاما لـالشيخ عب العيش، فأن تذهب لتجرب الدخان للمرة الأولى، مستتراً باثنين من المقامات بناهما أجدادك فهي مصيبة قادرة على إرباك طفل العاشرة المتعجل على الدنيا.

المهم، ذهبت خلف طوطح وأنا أتلفت خوفاً من مقام الشيخة خضرا، حتى وصلناغرزة/ قهوة، بلا اسم.. نعم وقتها لم تكن المقاهي في الأرياف ذات أسماء رنانة، نحن نتحدث عن قعر الريف في شمال الصعيد، حيث كل شيء مرتبط بالأشخاص.. هذا شارع فلان، وهذا دكان فلانة وحتى تقسيم الأحواض الزراعية، فهذا حوض سعد وسعيد، وهذه ناحية جلول، وتلك البعيدة عزبة فلان الفلاني.

على هذا المستوى كان كل شيء مرتبط بأسماء البشر، من البهائم للخدمات، فمثلاً البوستة المركزية، بالنسبة لي فإن موقعها الجغرافي بالضبط هومبحر بعد بيت عمك محمود الفخراني، ومبنى المحافظة الذي نقلوه عدة مرات أصبحالمحافظة اللي قبلي أرض منير دلة، وعليه كانتالقهوة/ الغرزة، هي قهوةعبد أحمد“.

ما هذا الاسم الغريبعبد، ومن هو أحمد الذي يتسيد هذا الـعبدبهذه الصورة لدرجة أن العبودية التصقت باسم الرجل ومكانه ومحل أكل عيشه طيلة هذه السنوات؟.

لا يجرجرك التفكير بعيداً، فعبد أحمد هذا ليس أكثر من اختصار نتيجة الملل في عصاري الفيوم فائقة الرطوبة والحرارة، فهو فيورق الحكومة، عبد السيد أحمد.

عبد السيد،؟ لا يبدو هذا اسما لمسلم صعيدي قح، نعم حدسك صحيح، فعبد السيد كان مسيحياً نذرت أمه التي لم تكن يكن أولادها يعيشون إلا ساعات فقط بعد الولادة، إن جاء الولد وعاش حتى يرى سبع أقمار متتالية، لتسمينه عبد السيد. وبالفعل، عاش عبد السيد سبع ليالٍ كان فيهن الجو صافياً، والقمر بارزاً، فأعتمدت اسمه، لكنها لم تنج من ضربات القدر، إذ مات والد عبد السيد في الليلة السابعة، فور إثبات الاسم في أوراق الحكومة ودفتر شيخ البلد!.

عاشت السيدة الملكومة تحمل لقبأم عبد، فهناك الكثيرات يحملن ذات اللقب، فكل سيدة ولدت ذكراً جعلته عبداً لله أو للرحمن، يقال لها اختصاراًأم عبد، ولأن الأسماء متقاربة وكلها أسماء حسنى، كان الاختصار واجباً، فكلنا عباد الله، وهن أمهاتنا، والشكور هو الغفور والله هو اللطيف والرحمن هو الرحيم.

لكن مشكلةعبد السيد، أن اسمه ناتئ وسط الناس، فكان المسيحيون في البلدة الصغيرة يسمونعبد النور، أوالسيد، لكنعبد السيدكانت ناتئة وغريبة، وظلت كذلك حتى فوجئ الجميع بالسيدة تعلن إسلام طفلها (لم يكن تجاوز مرحلة التبول في ملابسه بعد)، وأطلقت عليهعبد السيد أحمد، ليكون جامعاً للحسنيين، مسيحياً في المنشأ والأب والأم، ومسلماً في المسار ما بعد الأبوين.

لم يكن إعلان إسلامه أكثر من حيلة، للسيدة الذكية الهلكانة في أعمال البيوت، فكون ولدها حديث عهد بالإسلام، ضمن له الطعام والشراب والدعم وأبعده عنعنصرية العيالأمام طفل مسيحي فقير ويتيم، أما هي، فلم تغير ديانتها، فهناك على بعد نحو 20 كيلومتراً، تتابع معأبونامسائل الحياة وعسرها، فيجبرها بشيء من الصدقات، ويسألها عنعبد السيد، فتقولنعمة من الرب، وحين تعود للبلدة من زيارتها الإسبوعية لدير الملاك ميخائيل في قرية العزب، تسأل عن ولدها في الكتاب، فتجده يحاول حفظ الآيات بعسر، لكنه سعيد بالطعام الذي يرسلونه إليه وبالحياةالجديدةالتي أكتسبها بإضافةأحمدإلى اسمه، بدلاً منفانوساسم والده الراحل في الليلة السابعة.

وكي تستطيع الأم الاحتفاظ بالحسنات من كلا الطرفين، وكي يدخل الولد فيورق الحكومةبشكلٍ سليم، احتالت المرأة على  أمهات عبدبحيلة ذكية. وقتها كانأمين الطافششيخ البلد، من خارجدار الرماد، كان وافداً يحمل في قدميه جهلاً بكل تفاصيل البلدة، لكنهمُعينبدلاً من شيخ البلد القديمجابرالذي غرته الأماني فقتل عسكري إنجليزي ثم فر فلم تعرف له الحكومة أثراً على الإطلاق.

دخلت أم عبد السيد علىالطافش، بلؤم كان يقبله، معتمدة على جهل الرجل القادم مننقاليفهالبعيدة جداًوقتهاعن المدينة، فحدثته عن الولد وكيف أسلم حين رأى في المنامستنا فاطنة الزهرا، وكيف أن له مستقبلاً في كل مجال، وأنها لم تسلم كي لا تقطع عنها الكنيسة المعونة الأسبوعية، إلى آخر هذاالنصبالمعتاد. ثم قدمت مطلبها العجيب المتفق عليه مع تسع من نساء كبار البلد.

يا شيخ البلد، ولدي اتأسلم بدري، ولا ليه عم ولا خال، وأبوه فانوس بن فوزي بن بسخيرون. ودلوقتي يكبر ويشد ويبقى عبد السيد أحمد بن فانوس!.. يا شيخ البلد وشيال الحمول.. بقولك ستنا الزهرا الطاهرا طلعت له في المنام ووصفها واتأسلم.. يرضيك يعني تخليه في وسط الناس مسخة نص هنا ونص هناك؟.. يا شيخ البلد يا سناد الخلايق..كلهمتقصد النسوةأم عبد، وأنا أم عبد، فيها إيه لو الواد بقى عبد السيد أحمد بن كل عبد؟ أهو كلها عباد ربك، وفانوس أنا شايلة أسمه وأهي بتقضى“.

وافق شيخ البلد على تزوير أوراقه الرسمية في الدفتر، واستملح الفكرة، فجعل على اسم عبد السيد شهوداً، وتأكد أن اسمهلا يأكل طيب الخلايق يا مرة، بمعنى أنه لا يتشابه مع أحد من أصحاب الأراضي فينازع أهله الميراث لا حقاً.

وبالفعل، جاءت أم عبد السيد أحمد محنية الظهر رغم طولها الفارع، ومعهاأمهات عبدالأخريات، وبصمن مع أزواجهن ومن تيسر في المجلس على هذا القرار، وكتب شيخ البلد بيده الاسم الجديد: عبد السيد أحمد بن عبد الله بن عبد الشكور بن عبد اللطيف بن عبد الحكم بن عبد الرحيم بن عبد القادر.. هنا وقف شيخ الجامع غاضباً وقال في المجلس:”والله لتنزل عليكم النار تشوي اكبادكم.. يا شيخ البلد انسبوهم لآبائهم هو أفضل عند الله، ثم برطم بكلمتين بالنحوي فساد الهرج، حتىهبشتأم عبد السيد أحمد يد الطافش وهمستابن فانوس“.

فصار اسم الولد: عبد السيد أحمد بن عبد الله بن بد الشكور بن عبد اللطيف بن عبد الحكم بن عبد الرحيم بن عبد القادر بن فانوس. وصار اختصاراًعبد السيد أحمدثم اختصر الزمن الاختصار، فصارعبد أحمد“.

شبعبد أحمدلا يفرق بين الألف وكوز الدرة، فرغم ذهابه للكتاب، إلا أنه كان يذهب ليأكل، وكلما سألت عليه أمه الشيخ الضرير الذي يسوس العيال بعصاه وعقيرته، أخبرها بالحقيقةحمار.. على الطلاق حمار.. مش ابن فانوس الخواص؟ بقولك حمار ابن حمار ابن بهيمة.. تقولي أسم تقولي بقى صحابي تقولي بقى نبي.. ابنك جحش يا ولية“.

لم يكن الشيخ متجنياً، حتىأم عبد أحمد، كانت تعي أن هذا الوجه الذي يشبه أباه لن يكون ذكياً أبداً، فالراحل فانوس لم يكن له من الضياء أي نصيب، وجهه مسحول كرغيف فسدت خميرته، وجسده معتل من العمل في غيطان الناس، أما ولدهعبد السيد أحمد، فكان نعم الابن البار بجينات أبيه وجدوده، مدكوك الجسد، مفلطح الوجهة عريض الجبهة معتل الحركة، تلمح في عيونه ذعراً غير مفهوم، وترى في تصرفاته غباءً متوارثاً وحصرياً.

كبرعبد أحمد“.. كبر لأن العمر يمضي بقضاء الله حيث لا حيلة فيه.. فهمعبد أحمد“.. فهم لأنه حتى الحيطان الصماء سوف تدرك أنه غبي فقير بلا مهنة وعليه أن يأكل ويشرب ويتكاثر.. عاشعبد أحمد في الخلاء دائماً، فأمه التي ماتت لم تكن تملك مكاناً مناسباُ، وبعد واقعة إسلامه كطفل، أعطوها شيئاً مما يشتبه بكونه بيتاً، قطعة أرض خلاء بين مقامي الشيخ خضرا، والشيخعب العيش” (العيش هو الخبز والعب هو الجراب أوالفراغ بين رقبة الجلباب والجسد). عاشت هناك قليلاً، ثم سلمت الروح إلى خالقها.

إقرأ أيضا
الطين

أما عبد أحمد الذي كان عبد السيد بن بن بن بن فانوس، فلم يحزن لموتها ولم يفرح، كان جوعاناً وغبياً بطريقة لا يمكن تصديقها. كل ما يعرفه في الحياة أن أمه كانت تستغل موقع المسكن بين مقامين، لتضع قفصاً على بيضات مقترضات منأمهات عبد، ليأكلها المارة بقروش وملح، وربما تجعل لنفسهاكانونتصنع عليه الشاي الكوبيا (الأسود الثقيل)، وتبيعه للعمال المتجهين من بين المقامين إلى الزراعات في أرض السبخة أو دلة أو حوض سعد وسعيد.

لم يكن يعرفعبد أحمدأن القفص هو مصدر رزقه الوحيد، حتى ماتت أمه، فأقبل يقلدها دون فهم، ويشتري منه الناس دون اكتراث، ومرت السنوات والقفص أصبح نصف دكان، والفراغ بين المقامين زرعته البيوت والطرقات، والعابرون إلى الغيطان كل فجر، أصبحوا يركبونالتايوتا” (سيارة بيك آب تويوتا).

ضاق الحال بالرجل الذي لم يتزوج، وجرب أن يفكر فنام من التعب، حتى جرجره الأصدقاء إلى بيت أيمن جلول ليخدمهم ويضع لهم الفحم والجوزة، بينما يشاهدون شيئاً في صندوق مغلق فوقه قطعة من مفرش قديم، يسمونهالفيديون“.

كان لسان عبد أحمد يتدلى كل ما شعربالإثارة،وحين وجدعلبة تدخل في علبة ورحمة أمي وأبويا، والناس متعبية في علب تطلع على التلافزيون“. انصهر عبد أحمد بكيانه مع هذا الشيء الرهيب المدعوفيديو، كان يملكه خمسة أنفار في البلدة كلها، وهو لا يستطيع أن يذهب إلا إذا دعاه أحد من ضيوف جلول الابن، وإلا سينال عقاباً مرعباً (مرة ربطوه في فرع شجرة وتتفوا نصف شعره تقريباً).

وحيثما كان الفيديو،كان بابا للرزق لعبدالسيد أحمد، فسرعان ماظهرتالشرايط الحمرا، وتحول موقف العائلات من جهاز الفيديو سريعاً، ولم يجد الشباب مكاناً آمناً لهذاالغرضإلا بيتعبد أحمدالذي تحول لمقهى مرتجل بين مقامين جليلين، يشاهدوا فيه ما يحبونه.

عاش عبد أحمدعلى قفا الاختراع، فهو لا يفعل شيئاً سوى الذهاب كل يوم والنوم على الدكة أمامقهوة عبد أحمدالتي تدر عليه دخلاً غير عادي.. انتشر اسم القهوة ومهنتها، حتى ثار الناس ضده وضربوه حتى سال الدم من فوقه وتحته. وحين هدأت المعمعة، قرر أن يحولها إلى مكان يعرض الأفلام المصنفة هندية وتركية، تلك التي لا يؤجرها سوىفيديو القزازبمنطقة التفتيش، حيث يجد الشباب شيئاً من الراحة، والكثير جدا من الأغاني والبهارات التي قد تغنيهم عنالمهمة القديمة“.

ظلت قهوة عبد أحمد علامة بارزة في التاريخ.. تاريخ المنطقة، وتاريخ البشر، وحتى تاريخي الشخصي، فحين ذهبت إلى هناك للمرة الأولى خائفاً أحاول أن أداري خوفي بطولي غير المتناسب مع سني، وبمشيةمبهرجة، تخفي اضطراب نفسي، لم أكن خائفاً من القهوة التي تحولت إلى وكر لكل جديد، فإذا أردت أن تشاهد فيلما، ستذهب إلىعبد أحمد، وإن أحببت أن تناقش عملية سرقة مع زملائك فلتذهب عند عبد أحمد، ولو أن لديك نميمة بعد ليلة قضيتها في حضن شربات زوجة سيد لامؤاخذة (له قصة منفصلة مدهشة)، فستحكي لمن تريد عند عبد أحمد.. أيضاً إن كنت طفلاً في جسد مراهق يعرفك القاصي والداني وتريد أن تجرب الدخان، فسوف تذهب حتماً إلى قهوة/ غرزة/ وكر عبد أحمد، لتجده نائماً، لأن التاريخ يبدأ عنده، ولا ينتهي أبداً.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان