رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
945   مشاهدة  

فنان الشعب سيد درويش مسيرة قصيرة وأعمال خالدة (7) الجانب الشخصي

فنان الشعب سيد درويش


انتهينا في اللقاء السابق من سلسلة فنان الشعب سيد درويش حينما حل الشيخ سيد فرقته الخاصة، وهم بالسفر إلى إيطاليا ليكمل تعلم فنون المسرح الغنائي، وكما قلنا في الحلقة السابقة أن سيد لم يكن في الإدارة على قدر موهبته في الغناء، وإن كان قد آنس في نفسه القدرة على القيام بتكوين فرقة خاصة تحمل اسمه، خصوصا بعد تدافع معظم الفرق المسرحية عليه ليلحن لهم مسرحياتهم وذيوع صيته وفنه في أرجاء المحروسة.

طالع حلقات 
فنان الشعب سيد درويش

نستطيع أن نقول أن مسيرة فنان الشعب سيد درويش كانت بلا شك مسيرة مليئة بالصعاب والكبوات رغم ما حققه وما رسمه لنفسه من مذهب غير شكل الموسيقى المصرية بل الموسيقى الشرقية ككل، ولعل ذلك كان سببا في إطلاق لقب خالد الذكر على الشيخ سيد درويش، وهو لقب لم يأت من فراغ، فقد كرس هذا الرجل حياته كلها للفن الموسيقي ووهبه كل ما أوتي من ذكاء وعبقرية حتى أنه كان يلقب نفسه بـ (خادم الموسيقى سيد درويش)، وكان لا يوقع إلا إذا سبق اسمه هذا اللقب.

ظلت ألحان فنان الشعب سيد درويش تعبر بصدق عن انفعالات الجماهير المصرية والعربية، ظلت تفرض نفسها وتؤكد بقوة أنها لا زالت حتى الآن في ضمائر الطوائف الشعبية تعبر عن آمالاهم وآلامهم وأحلامهم، وبشكل صريح يمكن أن نقول أن الغناء قد انتقل بهذه الألحان إلى ساحة الجماهير الشعبية العريضة، بعد أن كان محتكرا بأصوات الصييتة المحترفين في بيوت أصحاب السرايات والقصور من الطبقات الأرستقراطية والرأسمالية.

سيد درويش الإنسان

سيد درويش
سيد درويش

باستقراء سيرة خالد الذكر سيد درويش نجد أن هذا الرجل كان بسيطا ومتواضعا لأبعد الحدود، لم يكن متكلفا ولا متكبرا ولا مغرورا حتى بعد أن وصل إلى ما وصل إليه من نجاح وشهرة لم يصل لها أحدا من أبناء جيله، فقد عاش الشيخ سيد درويش يشق طريقه بصبر وجلد، يهيم في كل مكان، لم يكن متزلفا يصطنع في الكلام أسلوبا خاصا يخاطب به العظماء غير أسلوبه العادي الذي يخاطب به العامة من الناس، ولا عجب في ذلك، فقد تربى سيد درويش في كنف العمال البسطاء بل وكان واحدا منهم، كذلك فإن نشأته في حي شعبي كحي كوم الدكة قد أورثته الكثير من الصفات الحميدة التي عبرت عن نفسها حين أصبح سيد مشهورا.

كان سيد درويش ينطق بالكلام على سجيته، أو كما يقول الشعب المصري “اللي في قلبه على لسانه”، فهو مصري إبن بلد، خرج من الشعب الكادح البسيط المتواضع، وقبل كل شيء كانت له روح الفنان الذي لم يطمع في شيء ولم يحرص على شيء، ولم يمرغ وجهه تحت أقدام العظماء والوزراء، وقد يظن البعض أن ما ورد في الحلقات السابقة من طلب سيد درويش من الخديوي أن يسمح له بالسفر للتعلم على نفقة الحكومة المصرية تزلفا له أو تملقاً له خصوصا لما أرفقه من دور “عواطفك دي أشهر من نار”، ولكن الحقيقة أن سيد درويش قد فعل ما فعله في وقت كانت سلطات الاحتلال قد حظرت فيه ذكر اسم الخديوي في أي شيء، وأعتقد أن ذلك كان انطلاقا من وطنية سيد درويش بمساعدة يونس القاضي.

كان سيد درويش منطلقا في الحياة بفلسفة خاصة، لا يسعى لجمع الثروة ولا تهمه الأموال (على ما سيأتي ذكره) حتى أنه لم يترك شيئا لورثته سوى عصاته وعوده ورزمة من الأوراق التي دونت فيها بعض ألحانه.

يحكى أن سيد درويش كان يعيش في الشارع وفي الزقاق وفي الحدائق وعلى ضفاف النيل وبين الزرع والشجر يستلهم من كل شيء شيئا، ويطوي سر الطبيعة بين جنبيه، فلم يكن لديه الوقت الكافي ليفكر في مظاهر هو أبعد ما يكون عنها وعن تكاليفها التي تأباها نفسه الكبيرة وروحه العالية.

التبذير والإسراف والفقر في حياة فنان الشعب سيد درويش

سيد درويش
سيد درويش

كان الشيخ سيد درويش في حياته مبذرا غير عابيء بالمال رغم كثرته، وكأنه كان يعلم أنه لن يعيش عمرا طويلا، فكما نقول نحن المصريون كان يعيش حياته بالطول والعرض، فأنتج نتاجا كبيرا يحتاج لعمر مديد في سنوات قليلة، واكتسب أموالا طائلة أنفقها كلها في سرعة لا تجارى، حتى أنه كما قلنا لم يترك منها لورثته شيئا.

كان سيد على عجلة من أمره في كل شيء وفي أي مجال، عانى الفقر والجوع والمرض من هذا التبذير وذاك الإسراف، إلا أن فقره كان لذيذا على حد تعبير صديقه بديع خيري، الذي حكي عنه :
معاك كام يا بديع؟ ثلاثة قروش ؟ وانا معايا خمسة، نضم الخمسة على الثلاثة لننفق منها ثلاثة أو أربعة أيام.

كذلك روى المرحوم بديع خيري أنهما لشدة فقرهما سهرا ليلة بطولها هذا يؤلف وذاك يلحن حتى انتهيا من وضع اثني عشر دورا، أخذاها إلى صاحب شركة الاسطوانات (ميشيان) ليقاولاه في السعر، فعرف ميشيان حالهما فعرض شراء ثمانية أدوار بعشرة جنيهات زادها إلى اثني عشر جنيها، وهو مبلغ ضئيل جدا، وفيما كان بديع يتابع المقاولة ويحاول مع ميشيان لجعل السعر خمسة عشر جنيها، تناول سيد درويش الأدوار المدونة ومزقها وهو يقول: هو احنا بنبيع ترمس ؟ الدور بجنيه وربع؟ ثم انصرف وهو غاضب غضبا شديدا.

إقرأ أيضا
سيد درويش

الحقيقة كلما قرأت سيرة سيد درويش ووصلت عند حال فقرة وحاجته رغم ما كان عليه فنه، أقف متعجبا من حاله، مقارنا ذلك بما وصلنا إليه الآن من تشويه لا يسمى فن، ينعم أصحابه بالثراء الفاحش غير المبرر، كيف وصلنا لذلك، سيد درويش الذي قلب موازين الموسيقى لا يجد ما ينفقه لسد حاجاته، في حين يتمرغ هؤلاء المدعين في الأموال تمرغا.

غلاف كتاب سيد درويش حياة ونغم
غلاف كتاب سيد درويش حياة ونغم

يحكي حسن القصبجي وهو أحد أعضاء فرقة سيد درويش في كتاب (سيد درويش حياة ونغم) عن حال الشيخ سيد فيقول: هبطنا عماد الدين ذات ليلة برفقة الشيخ سيد درويش وقصدنا مسرح الريحاني فإذا بهم يعزفون إحدى أوبريتاته المعروفة، وخرجنا إلى مسرح علي الكسار المجاور فإذا بهم يعرضون أوبريت لسيد درويش أيضا، وعلى مقربة كان كازينو دي باري يعرض “العشرة الطيبة”، وخطر للشيخ سيد درويش أن يعرف ماذا يعرض أولاد عكاشة وفرقة منيرة المهدية، فإذا بمسرح الأزبكية يعرض أوبريت “هدى” و فرقة منيرة تعرض اوبريت “كلها يومين” وهما من تلحين الشيخ سيد أيضا، وأمام مسرح منيرة المهدية كانت السيدة نعيمة المصرية في صالة “الهمبرا” تغني دور “ضيعت مستقبل حياتي”، ضحك الشيخ سيد درويش في رضى ثم اقترح أن نذهب إلى روض الفرج، وكان يزدحم في أشهر الصيف بالمقاهي وفي كل مقهى تخت ومطرب وغناء ورقص، وتشاء الصدف العجيبة أن نجد جميع مطربي هذه المقاهي يغنون أدوارا أو طقاطيقا للشيخ سيد درويش، فجلجلت ضحكة الشيخ سيد وهو يخرج من جيبة ثلاثة قروش، هي كل ما كان معه.

انظر عزيزي القاريء، كيف كان حال سيد درويش الذي عم فنه أرجاء المحروسة كلها، فما من مسرح أو صالة إلا وتعرض أعماله، وهو ما يمثل نجاحا لم يحققه أحد من قبل، في حين لم يكن سيد يحوز من المال سوى الثلاثة قروش تلك، كذلك عد وانظر لأحوال أنصاف الفنانين أو بالأحرى المؤدين في وقتنا الحالي وما هم عليه من ثراء لا يقارن بموهبتهم أو فنهم، ولكن في النهاية، أقول أن الفن لا يقيم بالمال أبدا، وأن المقابل المادي لا يخلد فنا، بل الذي يخلده هو قيمته الحقيقة كفن، لذلك عاش فن سيد درويش وسيظل للأبد يعبر عن نفسه وعن قيمته.

إلى هنا أعزائي القراء نصل إلى نهاية الحلقة السابعة من مسيرة فنان الشعب خالد الذكر سيد درويش
على ان نكمل المسيرة في حلقات قادمة.
دمتم في سعادة وسرور.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
4
أحزنني
0
أعجبني
3
أغضبني
0
هاهاها
1
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان