محمد فؤاد .. سيرة ابن البلد الذي تاه في السكة – الجزء الأول –
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
حتى منتصف التسعينيات كانت قمة الأغنية الشبابية تتأرجح بين نجمين هما “عمرو دياب – محمد فؤاد” كان التنافس شديدًا بينهما يربح أحدهما جولة ثم يأتي الآخر ليزيحه في جولة تالية، استمر الصراع بينهما حتى بداية الألفية تلك المرحلة التي كانت تبشر بتغييرات كثيرة على مستوى سوق البوب المصري والعربي حتى حسمت الصدارة في النهاية لعمرو دياب الذي سبق الجميع بقدرته على تطوير مشروعه الغنائي، أما فؤاد فدخل في رحلة تيه فني خرج منها على دوامة من المشاكل بسبب آراءه السياسية وخلافات كثيرة مع بعض الفنانين، تلك الدوامة أسقطت فؤاد من على القمة بل واخرجته من المنافسه تمامًا حتى أفضت إلى الشخصية التي نراها الآن والتي تحاول البحث عن أي طريق للعودة مجددًا لكن يبدو أنه فقد تأثيره ولم يعد كسابق عهده حيث لم تسفر محاولاته الأخيرة عن أي نجاح ملموس.
أبن البلد.
أغلب الجمهور يتعامل مع تجربة فؤاد الغنائية على أنها بنت أصيلة للشارع المصري بحواريه و أزقته الضيقة وناسه الطيبين، بينما التجربة في العموم لم تتطرق إلي هذا المفهوم بشكل مكثف لكن يمكن تفسير ذلك بسبب ملامح فؤاد شديدة المصرية.
عزف فؤاد على هذا الوتر الشعبوي في عدد قليل جدًا من الأغاني لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وحاول أن يجعلها أكثر واقعية في طريقة تصويره لأغانيه التي جعلت منه ابن بلد خفيف الدم يقف بملامحه البسيطة أمام غطرسة النجوم البرجوازيين ذوي المظاهر البراقة التي تشير إلى اغترابهم عن طبقاتهم الإجتماعية، بينما يؤسس فؤاد لفكرة أنه يشبهنا نحن المستمعين العاديين أكثر منهم.
تلك الصورة الذهنية تحطمت مع دخول فؤاد معترك الحديث عن السياسة التي لا يفقه أدبياتها بداية من مكالمته الشهيرة ليلة مباراة أم درمان مع منتخب الجزائر مرورًا برأيه في ثورة يناير الذي أغضب الكثيرين منه كلفه خسارة بعضًا من شعبيته، حاول فؤاد تعويض تلك الخسائر بالدخول عالم الدراما التليفزيونية في مسلسل “أغلى من حياتي” والذي لعب فيه على الحبكة التقليدية الأخ الأكبر ابن البلد المضحي الذي يقف بجانب الجميع، لكنه فشل المسلسل أعاده مرة أخرى إلى المربع صفر، ومع توقف الإنتاج الموسيقي بعد الثورة جرب أن يظهر كمذيع برامج مقالب يحمل توجه سياسي “فؤش في المعسكر 2014” لم يجنى منه سوى سخرية الجمهور الذي رأي أنه تقليد سخيف ومصطنع وادعاء وطنية زائفة، ودخل في مرحلة عدم اتزان وفقدان البوصلة التي كانت توجهه وهبطت اسهمه كثيرًا حتى اختفى ومن ثم بدأ محاولات العودة مرة أخرى، تلك المسيرة المتعرجة جدًا التي شهدت صعود سريع ثم فترة لمعان قوي واستمرار في صدارة المشهد ثم انهيار متتالي لم تفكك بشكل جدي ويتنازع عليها عدة أطراف ما بين تحميلها أكثر مما يجب أو بخس حقه في أنه كان أحد من شقوا روافد كثيرة في سوق البوب المصري في أخر أربعين عامًا.
متغربين .. متغربين.
ظهر فؤاد في بداية الثمانينات حيث كانت الأغنية المصرية تسير خلف تيارات موسيقية متعددة، انتشار قي للفرق الغنائية يقف أمامها تجارب جيل الوسط وأغنيته البديلة التي أعلنت انتهاء عصر الأغنية الكلاسيكية الطويلة مدعومة بنجاحات أقطابها “عمر فتحي – محمد منير – علي الحجار” وظهور تيار شعبي يقوده أحمد عدوية الذي بدأ كثقافة هامشية سرعان ما أصبح النجم الأول لثورة الكاسيت مما عزز من توسع في شركات الإنتاج التي وجد فيها الجمهور تحررًا من الخطاب الغنائي الرسمي الذي تدعمه الدولة.
في فيلم “إسماعيلية رايح جاي” جسد فؤاد بعضًا من سيرته الذاتية أهمها مشهد لقاؤه الأول مع الملحن “عزت أبو عوف” الذي قدمه لأول مرة عبر فرقة “الفور إم” التي كانت تعيش أوج تألقها في سهرات الفنادق والأندية الاجتماعية.
ظل فؤاد في كنف الفرقة أربع سنوات قدم خلالها بعض الأغنيات المنفردة مثل “متغربين – طرزان – فرجت” تلك الأغاني لفتت الأنظار إليه سريعًا في شرائط الفرقة مما جعل المنتج “عاطف منتصر” يلتقطه كي يبني عليه ثورته الإنتاجية الجديدة بعد ثورته الأولى مع المطرب “أحمد عدوية” ويبدو أنه وجد فيه المعادل العصري لتجربة عدوية لكن في اتجاه البوب والأغاني “الفرانكو” المختلطة موسيقاها بين الشرق والغرب، وبدأ الرهان مبكرًا معتمدًا على نجوم الأغنية البديلة الثلاثي “عصام عبد الله – مودي الإمام – محمد هلال” التي ستضع البذرة الأولي في تجربة محمد فؤاد المنفردة.
في السكة شفت اتنين.
في الشريط الأول “في السكة” نجح عاطف منتصر في إيجاد الخلطة المناسبة التي ستمنح فؤاد تميزًا عن بقية تجارب جيل الوسط على الأقل موسيقيًا، يعتمد على الثنائي “مودي الامام – محمد هلال” اللذان كان لهما السبق مع “فتحي سلامة” في تشكيل ملامح أغنية البوب المصري الحديث مع محاولة تقديم التراث المصري في ثوب عصري يتوافق مع ذائقة الجمهور الجديدة.
عنون الشريط بأغنية “في السكة” وهي أغنية شعبية ساخرة منحها صوت فؤاد المبحوح خفة دم قربته من الجمهور ونجحت كلاماتها الساخرة في تحقيق انتشار ضخمًا لها، في نفس الشريط استدعى الثنائي الشعبي “حسن ابو عتمان – محمد عصفور” اللذان حققا نجاحات كبرى مع عدوية ليصنعوا أغنية “يا صغير ع الهوى” في محاولة لتقديم أغنية شعبية مصرية في صورة عصرية “ديسكو” مع تنظيم جيد للالاّت الموسيقية حيث نجد بها صولو شرقي لاّلة الساكسفون الغربية القحة، وهو ما ينفي اسطورة أن الاستعانة بتلك الاّلة في البوب المصري الحديث بدأ في التسعينات كما يروج البعض عن جهل .
في بقية الشريط يتألق الشاعر “عصام عبد الله” الذي يبدو أنه وجد براحًا كي يطلق العنان لأفكاره حيث كتب أربع أغنيات بلهجات مصرية مختلفة “غرقان لشوشتي – صابر – عاش الطب – بعت الصبح مرسال” تنوعت ما بين البدوي و الصعيدي والفلاحي واللهجة البيضاء مع الاستعانة بـ الفلكلور المصري والنوبي في أغنيتان “يا طير يا غريب – يلا بينا” والأخيرة وضعت حجر الأساس في شهرة محمد فؤاد.
رحلة البحث عن هوية
في شريط “خفة دمه” استعان فؤاد بالشاعر عبد المنعم منتصر الذي كتب أغانيه بالكامل وكانت محاولة لاستنساخ أسلوب الشاعر عصام عبد الله ويظهر ذلك بشكل واضح في أغاني “الحظ – النص – حالم به – عالم مادي” لكنه لم ينجح في ترك بصمة تذكر، أما على مستوى الألحان والإخراج الموسيقي فنجد كثرة استخدام الألحان الفلكلورية ذات الطابع الشعبي والتي لم يكن فؤاد موفقًا في أداء معظمها ولم يعطيها طعمها الشرقي التطريبي كل هذا تم صبه في قالب عصري “ديسكو” من الموزع محمد هلال فظهر أن هناك حلقة مفقودة عدم انسجام وتآلف بين كل تلك الخلطات المختلفة مما تسبب في فشل الشريط أو على الأقل عدم تحقيقه مردود قوي يوازي النجاح الضخم في شريط “في السكة”
هذا الفشل جعل فؤاد لا يغامر في شريط “هاود” وعاد إلى مناطقه الآمنة مرة أخرى، عاود التعاون مع عصام عبد الله في أغنية كتبت باللهجة الصعيدية “هنحب بجد” مع ظهور مكثف للملحن “محمد عصفور” في ثلاثة أغاني،ودخول أسماء جديدة مثل “رضا أمين – عبد الرحمن أبو سنة – ناصر الجرن” مع “فاروق الشرنوبي – أحمد منيب” وإعادة تقديم أغنية “متغربين” التي سبق أن غناها مع فرقة الفور إم، واستعادة أغنية “عازز عليا النوم” من الفلكلور الشامي، كل هذا مغلف بتنوع موسيقي لافت في ظل وجود أسماء رنانة مثل “هاني شنودة – فتحي سلامة – يحيى الموجي – محمد هلال”.
تيار الأغنية الشبابية يدق الأبواب
في عام 1988 بدأت محاولات الجيل الجديد في صنع ثورته الخاصة، ظهر حميد الشاعري كموزعًا في شريط “لولاكي” و فتحي سلامة في “ميال” وبدأ هذا الجيل يضع بصمة مختلفة ستجعله يتفوق تجاريًا على تجارب جيل الوسط المسيطرة على الساحة.
في شريط “ياني” يسير فؤاد وفق المفهوم الجديد للأغنية ألحان سريعة مع تبسيط نغمي وكلمات بسيطة لا تحمل عمقًا ويظهر ذلك في أغاني “ويلاه” من كلمات “مجدي النجار” و الحان “حجاج عبد الرحمن” الثنائي الذي سيصبح نجوم الأغاني الضاربة فيما بعد مع توزيع “فتحي سلامة” أحد فرسان الرهان في تلك المرحلة، أعاد فؤاد تقديم أغنية الشمس التي سبق أن قدمها المطرب “عصام الخولي” من توزيع “حميد الشاعري” ونجح فؤاد في أن يعطيها صك النجاح بعد فشلها في المرة الأولى، مواصلة الاستعانة بالأغاني الشامية في “حمد الله ع السلامة” ويقدم لنا أهم اكتشافاته الملحن والموزع “ياسر عبد الرحمن” في ثلاثة أغنيات دفعة واحدة أشهرها “على عيني” التي أصبحت من كلاسيكيات فؤاد العظيمة.
في تلك المرحلة الأول من حياة فؤاد نجده دائم البحث عن هوية مختلفة تميزه، ظهر في صورة المغني الشعبي العصري الذي يقدم ألحانًا شعبية وفلكلورية موزعة بشكل حديث، إفراط في الغناء بلهجات مختلفة واستخدام أسلوب الصدمة في بعض مفردات أغانيه، مشاركًا في الثورة الجديدة للأغنية ووضح أنه مع منافسه الأبرز “عمرو دياب” سيشكل ملامح الأغنية الشبابية الجديدة التي ستسيطر لاحقًا على سوق البوب المصري.
“في الجزء الثاني سنغوص في رحلة فؤاد في التسعينات وانتقاله إلى شركة صوت الدلتا ولعبة الكراسي الموسيقية والتنافس على عرش الأغنية الشبابية”
الكاتب
-
محمد عطية
ناقد موسيقي مختص بالموسيقي الشرقية. كتب في العديد من المواقع مثل كسرة والمولد والمنصة وإضاءات
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال