منير وحكايات الغريب التائه في دائرة الرحلة
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
مع ظهوره، كان كل ما فيه غريب، قادمًا من عالم لا نعلم عنه الكثير، يحمل موسيقى لم نعتاد سماعها، وموضوعات ووجهات نظر مختلفة، جديدة وغير مسبوقة، محمد منير القادم من أقصى الجنوب غريبًا على المدينة وجد من يستقبله ويدعمه ويرحب به، وبالصدفة كانوا صفوة فناني هذا العصر، ليبدأ منير في سرد حكاياته، حكايات الغريب.
غربة وغرابة
المتأمل لمسيرة منير الفنية سيجد أنه منذ لحظة ظهوره اقترن نجمه بنجوم كبار ستجد في الكتابة صلاح جاهين وفؤاد حداد وفي الموسيقى كذلك ستجد أحمد منيب وهاني شنودة، وحتى في السينما ستجد اسمه اقترن باسم يوسف شاهين ذات نفسه، أحد أهم مخرجي السينما المصرية إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.
تلك الأسماء ساعدت منير أن يروي حكاياته المختلفة بطرق تحمل بداخلها عمق فني كان غائبًا عن الساحة، وخلقت له حالة وأسلوب ونمط فني مختلف كليًا عن الجميع فكان كطائر قرر أن يخرج عن السرب ليغرد منفردًا ولكن السؤال هنا هل كان هذا القرار قرار منير، أم قرار من حوله، أم أمر واقع فرضته عليه ملامحه المختلفة؟
الحقيقة أن إجابة السؤال مزيج بين ملامح منير المختلفة عن هيئة المطرب الكلاسيكي والشعبي، وفطنة وفكر من كانوا حول منير واعتبروه مشروعهم الخاص، ليحولوا منير من مطرب صاعد إلى ملك متوج على عرش مملكة تخصه واحدة، مملكة من الغناء الموازي.
في كل حي ولد عترة
يحكي منير حكاياته من كلمات فؤاد حداد وكلمات صلاح جاهين أو كلمات الأبنودي، يحكي حكايات لم نألفها أو نعتادها فمرة يحكي لنا عن الجيرة والعشرة، أو تلك الفتاة التي تغزل قفطان أحدهم، ومرة يحكي حدوتة المصرية، وتارة يكلمنا عن حبيبه بلون الشوكولاتة، ويأخذنا معه في رحلة في بيوت الفرح لنعرف معه للمرة الأولى طعم الأفراح ولون التفاح.
حكايات الغريب القادم للمدينة تائهًا فيها وفي دائرة رحلته، تحمل في طياتها حميمة ودعوة لإعمال العواطف والعقل معًا فيها، لنعيد اكتشافها مرة بعد أخرى في كل مرة نعيد سماعها، حكايات حتى تلك اللحظة لم نمل من سماعها وإن كنا الآن نتحسر على ما وصل إليه راويها.
منير ذاك الغريب الذي وجد وطنه هنا، كانت أزمته هي بوصلته، منير فنان بلا بوصلة تقريبًا، كسفينة خارقة ولكنها بلا ربان، بدايته جاءت ممزوجة بتجارب الأخرين وأفكارهم، وحينما تساقطوا، تساقط التجربة وخفت تارة برحيل صلاح جاهي وتارة برحيل أحمد منيب، وتارة برحيل رومان بونكا، أيًا كان شكل الرحيل، فالراحلون يأخذون معهم جزء من منير الذي نعرفه ليتركون لنا شبيه للملك لا الملك الحقيقي.
صاحب الشبابيك المختبئ خلفها
الملك الذي نسى كيف يحكي حكاياته، ظل متمسكًا بشكل موسيقى مفرغ من مضمونه، رحلة انهيار ربما كانت أولى خطواتها بألبوم أهل العرب والطرب والذي لم يحمل من منير سوى اسمه وبعد الأشكال الموسيقية التي اعتاد تقديمها دون أي مضمون، كروائي سأم الكتابة ولكنه مازال يكتب من أجل لقمة العيش.
الملك الغازي للثقافة الألمانية والأوروبية بموسيقاه، أصبح اليوم غير قادر حتى على إقناع محبيه القدامى، مما يجعلنا في موقف حرج أمام الجيل الجديد الذي يتعرف على منير من حكاياته الأخيرة، فكيف نقنعهم أن صاحب طاق طاق طاقية هو نفسه صاحب الشبابيك؟ كيف نقنعهم أن هذا الرجل كان عالم موسيقي مستقل بذاته يحمل في كل أغنية حكاية أكثر جمالًا مما سبقتها، أكثر صدقًا مما سبقتها.
من السيء أن تكون من الجيل الذي حضر توهج الملك واجتر معه محصوله الفني القديم، وتشبع به، ووقف في دار الأوبرا على أطراف أصابعه يغني للحياة، أن يشهد كل هذا الانهيار غير المبرر، فكأنما منير بعدما اعتاد المدينة ضل طريقه فيها، عكس كل الحكايات التي رواها في بدياته حينما كان يعرف طريقه جيدًا.
كل عام والملك الذي عرفناه بخير.. كل عام ونحن نتمنى أن يروي لنا منير حكاية أخيرة من حكايات الغريب الصادقة التي اعتدنا عليها، والتي لم يعد يرويها منذ زمن.
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال