
من مسيرة ليبيا إلى صمود غزة.. هل تتكرر لعنة السبعينيات؟

-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
في التاسعة من صباح العشرين من يوليو عام 1973، عبرت قافلة ليبية الحدود البرية نحو الأراضي المصرية، تحمل فوق راياتها حلمًا كبيرًا، فقد كتبوا على لافتاتهم بالدماء “لوحدة الفورية مع مصر”.
خمسة آلاف مواطن ليبي، على متن مئات السيارات والحافلات، تتقدمها البلدوزرات وتحلق فوقهم طائرة هليكوبتر ليبية للتأمين، انطلقوا من بلدة “رأس جدير” على الساحل الليبي التونسي، حاملين معهم آمال شعبٍ لطالما رأى في الوحدة مع مصر قدرًا تاريخيًا.
بدأت القافلة صغيرة، ثم راحت تكبر كلما توقفت في بلدات الساحل الليبي من زوارة إلى الزاوية، ومن مصراتة إلى طرابلس وبنغازي، تتلقفها جموع النساء بالزغاريد والرجال بالتصفيق، حتى بلغت عند مشارف بنغازي أكثر من 2000 سيارة.
ولكن ما بدا في ظاهره عرسًا وحدويًا في ظاهره، سرعان ما تحوّل إلى توتر مكتوم في الأوساط السياسية المصرية، فالرئيس أنور السادات، الذي كان يخوض معارك داخلية وخارجية معقدة مع الاحتلال الإسرائيلي حينها، أرسل مبعوثه الدكتور محمد حافظ غانم، الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، برسالة واضحة إلى العقيد معمر القذافي، يعرب فيها عن تحفظه على هذه “المبادرة الثورية” التي اعتبرها عاطفية أكثر مما تحتمل المرحلة، إذ كان السادات يرى أن الوحدة لا تُفرض بزحف جماهيري، بل تُبنى عبر توافق استراتيجي محسوب.

ورغم ذلك، قررت الدولة المصرية تنظيم استقبال شعبي في مرسى مطروح، يليق بحجم الحدث الذي كان بدعم عربي كبير حينها، يُعقد فيه حوار مفتوح بين قيادات المسيرة الليبية والقيادات الشعبية المصرية، ولكن في صباح 20 يوليو، وعند الكيلو 177 شرق السلوم، حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد خرجت 400 سيارة عن المسار المتفق عليه وتجاوزت مطروح متجهة إلى الإسكندرية، ما اعتبره السادات خرقًا صارخًا للاتفاق، ودليلًا على انفلات الزمام. فأرسل رسالة جديدة إلى القذافي يطالبه بالتدخل العاجل، محذرًا من أن تستغل “أطراف معادية” هذا الحراك الوحدوي وتحوله إلى فتنة سياسية.
رد ليبي غير متوقع

الرد الليبي جاء على غير المتوقع، ففي برقية رسمية، صرح القذافي أنه قدّم استقالته منذ 11 يوليو – أي قبل المسيرة الليبية – وأنه لا يحمل مسؤولية سياسية تجاه ما يحدث، وأضاف أن الشعب الليبي هو من أطلق المسيرة، حبًا في مصر، وأنه يدعوهم، كمواطن، لاحترام تعليمات القيادة المصرية. كانت تلك رسالة تنصل أكثر منها تضامن، أو هكذا فُهمت في القاهرة.

وفي فجر 21 يوليو، وبعد وصول ممثلين عن المسيرة إلى القاهرة لتسليم “وثيقة الوحدة الممهورة بالدم”، بدأت القافلة بالعودة تدريجيًا إلى ليبيا، بعدما أثمرت برقية القذافي أثرًا مباشرًا في تهدئة الحشود. في 22 يوليو، أوردت صحيفة الأهرام أن المسيرة توقفت بالفعل، واكتفت بتسجيل موقف رمزي في التاريخ العربي الحديث، قبل أن تنزاح الستارة على فصل جديد تمامًا.
من الحلم إلى الانفجار
انتهى مشهد 1973 ظاهريًا دون دماء، لكن شرارة الغضب بقيت مشتعلة تحت الرماد. فعلاقة القاهرة وطرابلس سرعان ما دخلت في نفق مظلم، فقد اعتبر القذافي أن السادات تراجع عن حلم الوحدة، وازدادت الهوة بين الرجلين مع توقيع مصر اتفاقات تمهيدية للسلام مع إسرائيل، ما رآه العقيد خيانة للقضية القومية.
في المقابل، لم يغفر السادات للقذافي تدخلاته ومحاولاته لإضعاف سلطته، بدءًا من دعم منشقين مصريين وانتهاءً بتخطيط محاولات اغتيال. وعليه، تحولت الحدود المصرية الليبية إلى مسرح صامت لحرب باردة، سرعان ما أطلقت أولى رصاصاتها في يوليو 1977.
حرب الأيام الأربعة.. النار على الحدود
هذه المسيرة الليبية كانت بداية لحرب الأيام الأربعة، ففي 21 يوليو 1977، اندلعت اشتباكات مسلحة بين القوات المصرية والليبية على طول الحدود، حين هاجمت كتيبة دبابات ليبية بلدة السلوم، وكان الرد المصري حاسمًا، فقد نصبت الوات المصرية كمائن، هجوم مضاد واسع، وغارات جوية على قاعدة جمال عبد الناصر الجوية، بل توغلت القوات المصرية قرابة 24 كيلومترًا داخل الأراضي الليبية.

استمرت المواجهات حتى 24 يوليو، وتخللتها تبادلات مدفعية ثقيلة وغارات دقيقة نفذتها القوات الخاصة المصرية على منشآت لوجستية ليبية. وتحت ضغوط دولية متزايدة، وخاصة من الجزائر بقيادة الرئيس هواري بومدين، والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، أعلن السادات وقفًا مفاجئًا لإطلاق النار، دون أن يُوقّع أي اتفاق رسمي مع ليبيا.
التبعات السياسية.. قطيعة وشكوك طويلة الأمد
انسحبت القوات المصرية تدريجيًا، لكن جرح العلاقات بين البلدين ظل مفتوحًا إذ خفف القذافي لاحقًا من لهجته، لكنه سعى لعزل مصر عربيًا، لا سيّما بعد كامب ديفيد. أما مصر، فرأت في القذافي زعيمًا متهورًا، لا يمكن الوثوق به في مشاريع وحدة حقيقية. وهكذا، انقلب حلم المسيرة الوحدوية من نشيد قومي إلى مقدمة درامية لصراع دموي على الحدود، في مشهد يعكس هشاشة الشعارات حين لا تسندها حسابات الواقع، ولا تصونها الحكمة السياسية.
واليوم وبعد أكثر من نصف قرن يتكرر السيناريو تمامًا تحت دعوى كسر الحصار عن غزة، إذ انطلقت قافلة “الصمود” في يونيو 2025، حاملة على متنها أكثر من 1500 ناشط من بلدان المغرب العربي، في محاولة رمزية لكسر الحصار الإسرائيلي الخانق على قطاع غزة، هكذا هو الهدف المعلن.
وكما في المسيرة الليبية التي نتج عنها حرب استمرت 4 أبام على الحدود، تشكّلت القافلة من عشرات الحافلات والسيارات،لناشطين من تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، فيما يستعد آخرون للالتحاق بها من ليبيا.
بدأت أولى خطوات الزحف من العاصمة الجزائرية صباح الأحد 8 يونيو، وسرعان ما لحقتها القافلة التونسية في اليوم التالي، حيث انطلقت من شارع محمد الخامس بتونس العاصمة صباح الإثنين 9 يونيو، مخترقة المدن واحدة تلو الأخرى من سوسة إلى صفاقس، فڨابس وبن قردان.
وفي فجر الثلاثاء 10 يونيو، غادرت القافلة الأراضي التونسية نحو ليبيا عبر معبر رأس جدير، تزامنًا مع انضمام وفود من جنوب الجزائر عبر ولاية مدنين، في حين تخطط القافلة للقاء وفود دولية أخرى بالقاهرة جاءوا عن طريق الجو يوم 12 من نفس الشهر، حيث سيتوجه المشاركون بعدها نحو مدينة العريش، ليستكملوا الطريق إلى رفح سيرًا على الأقدام لمسافة تناهز 50 كيلومترًا، يوم الجمعة، مؤكدين أنها لا تحمل أي مساعدات إنسانية هي فقط رمزية.
الرد المصري.. ترحيب حذر وتحذيرات مشددة
ورغم كل هذا أبدت مصر موقفًا دبلوماسيًا متوازنًا، حيث رحبت – على لسان وزارة الخارجية – بالمواقف الشعبية والدولية الداعمة للحق الفلسطيني والرافضة للحصار والتجويع والانتهاكات الإسرائيلية، وأكدت في بيانها الصادر مساء الأربعاء استمرار مصر في جهودها لوقف العدوان واحتواء المأساة الإنسانية التي ألمّت بملايين الفلسطينيين.
غير أن البيان لم يخلُ من التحذير، حيث شددت الخارجية المصرية على ضرورة الحصول على موافقات مسبقة لزيارة المناطق الحدودية مع غزة، بما في ذلك العريش ومعبر رفح، وأوضحت أن هذه الإجراءات التنظيمية وضعت لضمان أمن الوفود، في ظل دقة الأوضاع الأمنية منذ بدء الحرب، ولن يتم التجاوب مع أي طلبات أو دعوات لا تلتزم بهذه الآلية.
كما أكدت مصر ضرورة التزام مواطني الدول الراغبة في المشاركة بالقوانين المنظمة للدخول إلى الأراضي المصرية، بما في ذلك استخراج التأشيرات أو التصاريح المسبقة،وهو ما تنص عليه المواثيق والأعراف الدولية.

سيناريوهات المصير.. هل تفتح القاهرة البوابة أم تتكرر المآسي؟
على افتراض أن السلطات المصرية وافقت على دخول القافلة، فإن التاريخ يفتح صفحاته على سيناريوهين متضادين:
1. سيناريو الدعم الرمزي كما حدث مع القافلة الليبية في السبعينيات، حيث سُمح للقوافل الشعبية بالتقدم ضمن إشراف مصري، مع حفاظ على الأمن القومي وعدم الانجرار للتصعيد، وهو ما أدى إلى حرب ومناوشات بين ليبيا ومصروالتي عُرفت بحرب الأيام الأربعة.
2. سيناريو الاشتباك الأمني المحتمل، خاصة إذا وصلت القافلة إلى بوابة معبر رفح دون تنسيق مسبق، ما قد يؤدي إلى مواجهات مسلحة مع قوات الاحتلال، وهو أمر تسعى القاهرة لتجنّبه في ظل توترات إقليمية معقدة، من بينها سيطرة ميليشيات مسلحة على المثلث الحدودي بين مصر وليبيا في الجنوب، ومناوشات مسلحة في المياه الشرقية بقيادة جماعة الحوثي، وخلاف الحدود الشمالية الشرقية الملتهبة مع قوات الاحتلال، وفي كلا الحالتين، يبقى مصير قافلة الصمود معلّقًا، لكن الأكيد أن القاهرة ستدافع بقوة عن أمنها الإقليمي
اقرأ أيضًا : الخارجية تنهي الجدل.. ما مصير قافلة الصمود عند الحدود المصرية؟
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ما هو انطباعك؟







