رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
282   مشاهدة  

نوستاليجا حضانة الإخاء روضة كالجحيم

حضانة


في تلك الفيلا الشبيهة بقصور قصص الرعب القوطي نشأت أسوأ كوابيسي، في ذلك الفناء الملئ بالرمال، بأرجوحاته المحطمة، وذاك المبنى المكون من طابقين، الطابق الأول به مطعم كبير بكراسي ملونة وحمامات، أما الطابق الثاني فكان به عدة غرف واسعة مفتوحة الأبواب، نمت رغبتي في الانتقام كنبات متسلق.

 

في شارع جرين بمنطقة محرم بك بالإسكندرية، كانت حضانة الإخاء روضتي وأنا طفلة، والتي لم أشعر أبدًا بألفة بداخل جدرانها الرمادية الكئيبة،  كنت كلما اضطررت للذهاب اليها وتركتني أمي فيها أنفجر باكية، فقد كانت ميس عائشة تقبع هناك كوحش يلتهم الأرواح الصغيرة.

 

“ميس عيشة”، مديرة الروضة، سيدة في الأربعينيات، خمرية قصيرة وممتلئة، ذات شعر أسود ناعم قصير، يقبع تحته عينين سوداوين قاسيتين وملامح متجهمة متحجرة، صوت جاف وغليظ، ترتدي دائمًا تايير زيتي بليزر بتنورة ضيقة وقصيرة.

أثارت فاتن حمامة بوسامته غيرة عمر الشريف .. لماذا فشل عمرو الترجمان ولم يصبح “دنجوان”؟>

تصرخ ميس عيشة في وجهي دائما لأنني كنت أدخل فصلاً غير فصلي، فهناك كان وليد، ذلك الطفل اللطيف الوسيم الذي كنت أهوى اللعب معه ومع شقيقته، يلوح ظلها ملوحًا بعصا تضربني بها على يدي المفتوحة أمامها أربعة عصيان، تجلسني على باب الفصل لأنني قد تبولت على نفسي، وهي تقول بإشمئزاز وتقزز أمام وليد وشقيقته: انتي مش عملتي بيبي على نفسك؟؟….حتبقي من هنا ورايح البوابة بقى !!

 

كانت الروضة تقدم لنا وجبة يومية في الواحدة ظهرًا، خضار وأرز وقطعتين من اللحم،  وتقدم مرة واحدة في الأسبوع طبقًا شهيًا من المكرونة بالصلصة واللحم المفروم، كنت دائما أسأل أصدقائي عن نوعية الطعام، فلو كانت تلك الوجبة أرز وخضار – التي لا أفضلها – لا أذهب إلى المطعم، أما لو كانت مكرونة باللحم المفروم كنت أهرول إليه، أخبرني أصدقائي ذات يوم بأن وجبتي المفضلة تُقدم هناك فنزلت مسرعة وكنت أتضور جوعًا، صادفتني ميس عيشة فصرخت في وجهي قائلة  : انتي نازلة تتمختري دلوقتي؟…مفيش اكل…واطلعي على فصلك!

وذات صباح رتبت الروضة لأطفالها رحلة إلى حديقة الحيوانات، حملتُ كيس ساندوتشاتي وكيس العصير، وذهبت  مرتدية زيًا مخالفًا، وعندما رأتني ميس عيشة زمجرت صارخة: ايه ده انتي مش جاية بهدوم الحضانة ليه؟؟ طب مش حتطلعي الرحلة معانا وحتقعدي تحرسي الحضانة ! انفجرتً باكية على إحدى كراسي المطعم، وقد تخيلت للحظات أنهم سوف يتركوني وحدي في هذا المكان الكئيب، تبعتها لحظات سعادة بوجودي ضمن زملائي وأصدقائي في حديقة الحيوانات، كنت اتساءل ومازلت : هيا ميس عيشة كدبت ليه؟؟

ماريا ماندل .. مندوبة عزرائيل في السجون النازية التي قتلت وحدها نصف مليون سيدة
>
دائمًا كنت تلك الطفلة الكتومة التي تريد الإنتقام ممن آذوها ولكن لا تستطيع، تلك الطفلة التي صارت امرأة ومازالت لا تحكي ولا تتحدث، يتداعى فيض ذكرياتها أمام عينيها، ذكريات كدفاتر مهترئة فوق أرفف بعيدة، تلملمها كزجاج محطم قد خلّف في الروح ندبات.

اليوم وأنا أمر في شارع جرين لم أجد أثرًا للروضة، هًدمت الفيلا وبُني مكانها عمارة ضخمة.

 

إقرأ أيضا
صوت مصر

لا أخفيك سرًا ولكنني شعرت بانتشاء مخلوط بحزن عميق وأنا أعبر أمامها، شعرت ان المكان الملئ بكوابيس طفولتي قد هُدم، أحسست بأن هذا المكان لن يرعب أطفال آخرين، وعلى الرغم من أنني أعلم أن ميس عيشة قد توفيت بالتأكيد منذ أعوام عديدة، إلا إنني شعرت بأنها قد ماتت بموت هذا المكان واختفاءه من على وجه الآرض.

شعرت بأنني انتقمت من ميس عيشة حقًا !!

 

 

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
4
أحزنني
4
أعجبني
5
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان