وائل الدحدوح .. صورة شخصية للحزن
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
لو تصوّرنا أن المشاعر قد تجسّدت على هيئة بني آدمين، وكانت الفرحة مثلًا أنثى أوروبية رشيقة تمشي على نهر الراين، والاضطراب مثلًا رجل هزيل الجسد لكن شعاعًا ينفذ من عينيه الواسعتين البرّاقتين يبث الرعب في نفس ناظريه، وكان الأمل مثلًا على شكل ولد يافع في سن المراهقة ينظر أمامه رافعًا رأسه للسماء يرى على سُحبها أحلامه لا يأبه إذا تعثرت قدماه أم لا فهو غارق في بحر طموحاته.
وكان الحب مثلًا على شكل سيدة من إفريقيا السمراء، تحمل ابنها مربوطًا بالحبل الخشن على صدرها، وتحافظ على اتزان قفص البرتقال على رأسها في التزام الجندي خلال الحرب، وكانت الغواية في صورة مارلين مونرو، وكان الانتظار قد تشكّل كرجل كهل -نراه دائمًا- اتخذ جسده شكلًا صنميًا متكورًا حول نفسه، مستندًا على عصاه أمام داره، منتظرًا ابنه الذي هاجر إلى إيطاليا في مركب غير شرعية وانقطعت أخباره، فلم تعد تفرّق بين جسده وبين الانتظار.
لكننا إذا تصوّرنا على أي شاكلة يتشكّل الحزن، فقد غطسنا في بحر عميق (مالوش) قرار، فالحزن على سوءه ليس بيأس الكآبة، الحزن كالبيت المظلم الذي يدخله شعاع النور الرفيع من شباك صغير نسى القدر أن يغلقه .. والأيام -يا ناس- لم تمهلنا كثيرًا في حيرتنا لنرى مُعادل الحزن، فها هو الرجل الذي يرتدي واقي الرصاص الأزرق مكتوبًا عليه “press” ويمسك الميكروفون بقوة واستدامه حتى تظن أنه قطعه من يديه قد ولد بها، ويقف في جنوب مدينة غزة.
ووائل الدحدوح ، شخص مرهق لكل من يتابعه، فالرجل قوله كفعله، وهذا تحديدًا ما يجعلك ترى نفسك في حجمها الطبيعي بعد أن ملأت الطُرقات ضجيجًا عن تضحياتك التي تبدو أمام ما يقدمه الدحدوح خدمة لقضية آمن بها، كمقاس النملة أمام الفيل .. وبمرور أيام الحرب في غزة، تساقطت حبّات عينه واحد تلو الآخر، الأبناء والزوجة وغيرهم، وآثر الصمود على الإنهيار، وكأنه يخرج لسانه للمحبين قبل الأعداء، ويقول لنا: إن استطعتم فافعلوها! .. تحوّل الرجل مع مرور الأيام لكومة من الحزن القابع في قلوب ملايين من العرب والأحرار حول العالم، صورة لا يمكن الحديث عنها الآن كبطولة إنسانية، فالرجل تجاوزت قدراته قدرات البشر -بلا مبالغة- حتى إن صورته أصبحت الآن توازي مفهوم الحزن، الحزن الحقيقي الذي لا يمكنك التحدث ولا (الفضفضة) حياله، فقط عليك أن تصمت، وتصمت، وتصمت.
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال