رئيسة التحرير
رشا الشامي
همتك نعدل الكفة
45   مشاهدة  

“وثائق محتشد قبل 60 سنة” ما يجب أن تتعلمه الأحزاب الحالية من القديمة

وثائق محتشد
  • باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



فكرة استعانة الأحزاب السياسية، بغض النظر عن الوضع السياسي، بتعبئة المواطنين من أجل قضية وطنية معينة أو حتى كرنفال سياسي، ليست جديدة على الشارع المصري، بل هي فكرة ذات جذور عميقة، يعود استخدامها إلى أوقات سابقة، فعلى سبيل المثال، لجأ حزب الوفد في عام 1942 إلى حشد الأنصار للدفاع عن موقفه وقرار رئيسه بتولي الوزارة رغم إرادة الملك فاروق، حاكم مصر الشرعي، مدعومًا بقوة من “الدبابة الإنجليزية”.

الخلفية للفكرة

مظاهرات رفح
مظاهرات رفح

بالتالي، فإنها ليست من اختراع نظام بعينه خارج مصر أو داخلها (حتى وإن كانت مشهورة بعد عام 1952م)، فبعد إلغاء الأحزاب عقب ثورة يوليو، اتجه الرئيس جمال عبد الناصر إلى استبدالها بهيئة التحرير في عام 1953، التي لعبت دورًا محوريًا في أزمة مارس 1954 لصالح عبد الناصر، لكن هذه الهيئة لم تتمكن من النجاح، إذ فشلت فشلًا ذريعًا لعدم قدرتها على أن تكون تنظيمًا سياسيًا شعبيًا.

خطاب عبد الناصر فى المقر الرئيسى لهيئة التحرير بميدان الجمهورية
خطاب عبد الناصر فى المقر الرئيسى لهيئة التحرير بميدان الجمهورية

ومع مرور الوقت، جاء الاتحاد القومي في ديسمبر 1956 بموجب دستور 1956 ليحل محل هيئة التحرير، ولكن الاتحاد القومي لم يكن متماشيًا مع التغيرات التي فرضها العصر، ولا مع استحقاقات الثورة وما شهدته من تحولات.

إفتتاح المؤتمر العام للاتحاد القومى بجامعة القاهرة
إفتتاح المؤتمر العام للاتحاد القومى بجامعة القاهرة

وبحلول عام 1961م، واتجاه مصر إلى الاشتراكية، تأسس المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في 25 نوفمبر 1961م، والذي نتج عنه صدور الميثاق الوطني في 21 مايو 1962م، والذي كان أول دليل عمل مكتوب لثورة يوليو، ومعه وُلِد الاتحاد الاشتراكي الذي خرج منه منظمة الطليعة، ومنظمة الشباب.

خطاب عبد الناصر فى اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطنى للقوى الشعبية بمجلس الامة
خطاب عبد الناصر فى اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطنى للقوى الشعبية بمجلس الامة

وبصرف النظر عن مساوئ وإيجابيات هذه التنظيمات السياسية، إلا أن ما يهمنا في هذا السياق هو عقلية المنتسبين إليها، الذين تم حشدهم للمشاركة في الفعاليات الوطنية التي كانت تشهدها مصر بين عامي 1962 و1966.لن نلتفت إلى البيانات والكتب الرسمية، بل سنتوجه إلى هؤلاء الأفراد الذين انضموا لهذه التنظيمات لنفهم كيف يفكرون، وعندما نفهم طريقة تفكيرهم، سنتمكن من إدراك من هم المسؤولون عنهم في تلك التنظيمات وكيف تفكر عقليتهم.

وثائق نبيل شفيق يوسف .. ما هي وماذا نفهم منها

غلاف كتاب الميثاق الذي طرحه جمال عبدالناصر
غلاف كتاب الميثاق الذي طرحه جمال عبدالناصر

بينما كنت أسير في شوارع الأزبكية، عثرت على نسخة مطبوعة أصلية من الميثاق الذي قدمه جمال عبد الناصر في 21 مايو 1962. وما إن فتحت الكتاب حتى لفت انتباهي جملة مكتوبة بخط اليد على صفحة الغلاف الداخلي، تقول: “نبيل شفيق يوسف ـ معسكر إعداد القادة لمنظمة الشباب بأبي قير ـ يوليو 1966″، وهذه الجملة توضح أن الكتاب، الذي طبعته الدار القومية للطباعة والنشر عام 1962م، كان قد تم توزيعه على الشباب الذين انضموا حديثًا إلى المنظمة قبل انعقاد معسكر إعداد القادة بالإسكندرية.

نبيل شفيق يوسف وملكية كتاب الميثاق
نبيل شفيق يوسف وملكية كتاب الميثاق

أخذت في التفتيش عن ملابسات المناسبة في الأرشيف، حتى وجدت ما يفسرها في جريدة الأهرام عدد 30 يوليو 1966، أي بعد أيام قليلة من تأسيس منظمة الشباب في 21 يوليو. فقد نُشِر خبر عن افتتاح معسكر إعداد القادة في الكليات والمعاهد العليا يوم 29 يوليو، الذي أقيم داخل المعهد العالي للتربية الرياضية بأبي قير، واشترك في المعسكر 500 شاب من أبناء الاتحادات الطلابية في المعاهد العليا، بالإضافة إلى رؤساء وأعضاء مكاتب رعاية الشباب بها. وقد افتتح المعسكر حسين عزت، المدير العام للخدمات المركزية بوزارة التعليم العالي، نيابة عن الوزير حسين عزت سعيد.

جريدة الأهرام عدد 30 يوليو 1966م
جريدة الأهرام عدد 30 يوليو 1966م

لكن الاكتشاف لم يأتي بعد، ففي داخل الكتاب وجدت ورقةً من الدشت المقوى بخط نبيل شفيق يوسف، وكتب فيها في الوجه والظهر ملحوظاته وتساؤلاته واعتراضاته التي سيقولها في المؤتمر، وهو ما يكشف لنا كيف كان يفكر المحتشدين حينها.

وثائق

فمثلاً انتقد الاستدلال بتوماس كارليل صاحب كتاب  “الأبطال وعبادة البطولات” (Hero Worship and the Heroic in History) ورأيه في النبي محمد صلى الله عليه وسلم والنبي عيسى عليه السلام أنهما أبطال غيرا البشرية، وذكر أن وضع عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كبطلين ومقارنتهما بالأبطال التاريخيين وأثرهم على المجتمع البشري مثل نابليون وجورج واشنطن، هو كلام غير سليم ومنطق استعماري يجب أن نرفضه وننقب عنه.

وثائق

ثم واصل نبيل شفيق تسجيل ملحوظاته، فدوّن بخطه
ـ استقطاب رؤساء النقابات ومنحهم امتيازات، قضية تُستعمل لخداع العمال، إلا إذا كان لدى العمال وعيٌ كافٍ يمكنهم من إدراك أبعادها.
ـ ظهور حركة دول عدم الانحياز ودعمها لمواقف الدول النامية، يُعد بمثابة سحب لبعض الأرض التي كانت تقف عليها الاحتكارات الاستعمارية.
ـ تقدُّم طبقة معينة على حساب الطبقة العاملة؛ فإذا كان العامل اليوم يجد ما يشبع حاجاته، فإن استمرارية هذا الواقع غير مضمونة.

وثائق

ثم طرح نبيل شفيق مجموعة من الأسئلة التي تعكس عمق تفكيره
ـ ماذا نعني بالاستغلال؟
ـ ما هو موقفنا من الماركسية؟ وما هي السمات التي تميز الاشتراكية العربية عن الماركسية؟
ـ ما هي العوامل التاريخية التي أثّرت في ثورة 1919؟ وكيف أثّرت القيادة السياسية في فعاليتها حتى عام 1952؟
ـ هل توجد علاقة بين إصلاح الثورة ومفهوم الاشتراكية؟
ـ “الاشتراكية تنظيم اجتماعي” ما معنى هذه العبارة؟ وما الأساس الذي يقوم عليه هذا التنظيم؟

وثائق

هذه الورقة بخط صاحبها لم تكن مجرد ملاحظات عابرة، بل نافذة نادرة نطل من خلالها على طريقة تفكير أحد الشباب المشاركين في التجربة الاشتراكية، ووعيه بالقضايا التي كانت تُطرح وتُناقش آنذاك.

كيف يمكن للأحزاب أن تتعلم من هذه الوثيقة

من أخبار بداية الحرب على غزة
من أخبار بداية الحرب على غزة

إذا ما أخذنا هذه الوثيقة لمواطنٍ محتشد سنة 1966م وطبقناها على ما يجري الآن في مصر، سنجد أن النتيجة صفر كبير تستحقه كل الأحزاب عن جدارة، بسبب أن المواطنين المحتشدين لم يمتلك أغلبهم قدرًا من الوعي والمعرفة الذي ينبغي للأحزاب أن توفره بطرقٍ كثيرة.

YouTube player

منذ أحداث السابع من أكتوبر 2023 وحتى اللحظة، شهدت مصر ثلاث مظاهرات جماهيرية كبرى، نظّمتها الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة. كانت المظاهرة الأولى في 20 أكتوبر 2023، حيث خرجت الحشود في الأزهر وميدان التحرير ومدينة نصر، بعد يوم واحد من خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أعلن فيه رفضه القاطع لمخطط التهجير، ودعا إسرائيل إلى أن تجعل من صحراء النقب ملاذًا مؤقتًا لأهالي غزة لحين انتهاء العمليات.

مظاهرات المصريين الأولى، جريدة الشروق، ع21 أكتوبر 2023م
مظاهرات المصريين الأولى، جريدة الشروق، ع21 أكتوبر 2023م

أما المظاهرة الثانية، فقد كانت في 31 يناير 2025، وجاءت في مدينة رفح ردًا على التصريحات التي نُسبت للرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، والتي دعا فيها إلى اعتبار مصر وطنًا بديلاً لأهالي غزة. وتكررت ذات الرسالة في المظاهرة الثالثة، التي خرجت في 8 أبريل من العام نفسه.

مظاهرات المصريين الثانية، الأهرام، ع1 فبراير 2025م
مظاهرات المصريين الثانية، الأهرام، ع1 فبراير 2025م

وبالنظر إلى الحشود التي امتلأت بها مدينتا نصر ورفح، فإنها بدت في ظاهرها مظاهرات استعراضية ذات طابع تعبوي، تحمل في جانب منها رسالة نبيلة للعالم تؤكد أن مصر، حكومة وشعبًا، ترفض رفضًا قاطعًا أي مشروع تهجير يفرض على الفلسطينيين النزوح إلى أراضيها.

إقرأ أيضا
تصوير الجنازات
مظاهرات المصريين الثالثة، الأهرام، ع9 أبريل 2025م
مظاهرات المصريين الثالثة، الأهرام، ع9 أبريل 2025م

لكن عند التمعن في عمق هذه الحشود، نجد أن الغالبية العظمى من المشاركين كانوا من عامة الناس، ممن لا يدركون حقيقة ما يحمله مشروع التهجير من تهديدات استراتيجية، واقتصر وعيهم على فكرة أن “أهل غزة سينتقلون إلى مصر”، دون فهم أوسع لأبعاده أو تداعياته.

ومما يعزّز ما نذهب إليه، تلك المشاهد التي رأيناها في بعض الفيديوهات لمواطنين بدوا وكأنهم في فسحة إلى شرم الشيخ، لا في مظاهرة تُعبر عن أخطر القضايا المصيرية التي تواجه الوطن. وبالطبع، هؤلاء الناس معذورون – بجهلهم – في جهلهم، لكنهم غير معذورين في تصرفاتهم. ومع ذلك، فإن السؤال الأهم: من يتحمل مسؤولية إزاحة هذا الجهل عنهم؟ بلا شك، المسؤولية تقع على من قاموا بحشدهم.

YouTube player

وحتى لحظة كتابة هذا التقرير، لم يَرِد خبر واحد يُفيد بأن حزبًا سياسيًا من الأحزاب التي نظّمت الحشد إلى رفح، قد بادر بتنظيم ندوة واحدة – لا في القاهرة ولا في غيرها – لتناول قضية التهجير الفلسطيني وتداعياتها. لم نسمع عن مؤتمر توعوي، ولم نشهد ندوة ميدانية واحدة تُقام في رفح نفسها لتشرح للمواطنين لماذا جاؤوا، وما أهمية موقفهم، وما الذي يواجهونه من تحديات قومية.

لم نجد كُتيّبًا واحدًا يُوزّع على المحتشدين يشرح القضية ويوضح أبعادها، ولم تُخصص أي شاشات لعرض أفلام وثائقية أو مواد توعوية تُنير العقول في لحظة من أدق اللحظات التي تمر بها مصر في العصر الحديث.

الإشكالية الأعمق تكمن في أن الأحزاب ذاتها باتت معزولة تمامًا عن الناس الذين يُفترض أنها تمثلهم، وتُعبّر عن نبضهم، فالمواطنون الذين احتشدوا لرفض التهجير لم يكن لهم صلة حقيقية بهذه الأحزاب، ولم يتلقوا منها وعيًا أو خطابًا يشرح لهم ما يواجهونه، كل ما أرادته الأحزاب هو أن تُعبّئ الشارع ليهتف “لا للتهجير”، وتُلتقط الصور أمام عدسات الكاميرات، ثم ينتهي كل شيء عند هذا الحد.

لا توجد خطة توعوية ممنهجة، ولا رغبة حقيقية في بناء رأي عام واعٍ بالقضية. وهنا يطرح الواقع أسئلة ملحّة: هل الأحزاب تدرك فعلًا أنها مقصّرة؟ أم أن بعض قياداتها، في الأصل، لا يمتلكون معرفة كافية بمخاطر التهجير وتداعياته؟!

هذه الأسئلة لا تنتظر كثيرًا، لأنها إن تُركت للواقع كي يُجيب عنها، فستكون الإجابة إدانة جماعية… لكل من تخاذل، أو جهل، أو تعمّد أن يظل على الهامش.

اقرأ أيضًا 
رقص الأحزاب ودبلوماسية الرئيس!

الكاتب

  • وثائق وسيم عفيفي

    باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
1
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان