همتك نعدل الكفة
413   مشاهدة  

أبي .. أول رجل في حياتي

أبي


عيد والعيال اتنططوا ع القبور
لعبوا استغماية ولعبوا بابور
وبالونات ونايلونات شفتشي
ولا تختشي يا موت قصاد الحضور
(رباعية للشاعر المصري صلاح جاهين)

تذكرت هذه الرباعية وأنا أرى أولاد أشقائي الصغار يلعبون في الرمال غير مكترثين بالحزن الذي يعم المكان، في مدفن العائلة خلال زيارتي الأولى لقبر أبي في “طلعة” عيد الغطاس، حسب العادات القبطية المصرية  في قريتي. تذكرت نفسي وأنا طفلة عندما كنت أحضر هنا مع أمي وشقيقاتي وخالاتي في مناسبات كهذه، ألعب وأحفر في الرمال، وأكل “القرص”، ولا أعلم لماذا الكبار يبكون. اليوم جاء الدور علي لأبكي أبي الحبيب، الذي رحل فجأة منذ شهرين. حبيبي يا أبي، حتى الآن لا أصدق رحيلك، ولم أتجاوز الصدمة.

أبي هو أول رجل في حياتي، وعاملني كأني ابنته الوحيدة رغم  وجود 6 أشقاء وشقيقات لي. لكنه دللني كما لم يفعل مع أحدهم، وأحيانا كان ذلك مثار غيرة شقيقاتي البنات مني ونحن صغار. لم يجبرني على فعل شيء، بداية من التعليم وحتى قرار العمل أو الزواج ممن اخترته وأحبه. لقد اهتم بتعليمي وأصر على استكمالي التعليم وأن أدخل الجامعة. كنت الوحيدة في بيتنا التي حققت له حلم الحصول على الشهادة الجامعية، وكان يذهب معي إلى مدينة أسيوط كل أسبوع ليقوم بتوصيلي لمسكني في المدينة الجامعية والاطمئنان علي وعلى زميلاتي في المسكن. كان يحب أن يعرف كل شيء عني ويهتم بكل تفاصيلي. ويحكي معي كأني صديق له. يأتمنني على أسرار عمله. ويشكي لي من أمي عندما يتخاصما.
كنت أحب احترام أبي لأمي كثيرا، وحبه وتدليله لها. كان دائما هو الذي يبدأ الصلح معها بعد خصام لا يستمر لساعات. تمنيت أن أتزوج رجل مثل أبي، حنون ويجيد التعبير عن حبه لزوجته، ويقدرها. لكل هذه الأسباب ترك لي أبي حرية الاختيار في قرار الزواج. كان يخاف دائما أن أتزوج رجل قاسي القلب أو أعيش معه في نكد وعذاب، لذلك لم يضغط علي في قبول أي عريس طرق بابه، حتى بعد تجاوزي لسن الثلاثين، وضغط الأقارب عليه لاقناعي بأحد العرسان، حتى لا يفوتني قطار الزواج. كان دائما يقول لهم ” لو مش هتختار رجلها بنفسه يبقى مالوش لازمة تسيب بيت أبوها”. لقد فرح أبي عندما أخبرته أن هناك رجل يريد مقابلته ليطلب يدي منه. يومها تأكد أني اخترت بنفسي هذه المرة. لقد اخترت رجل يشبه أبي كثيرا. ربما دون أن أشعر بذلك.

كان أبي يحب العلم ويسعى للتعلم دائما وهو الرجل الذي لم يتعلم في المدارس وعلم نفسه بنفسه القراءة والكتابة، بل أن والدي أدهش الجميع عندما أصر على تعليم نفسه اللغة القبطية بعدما وجد نفسه يحضر القداس في الكنيسة ولا يفهم ما يقال من صلوات. اشترى كتب تعليم اللغة القبطية وبدأ في التعلم وثابر واجتهد كثيرا، حتى وصل لتمكنه من القبطية نطقا وكتابة بطلاقة، وأصبح شماسا في الكنيسة، يقف خلف الكاهن يرتل الصلوات والألحان القبطية بصوته الشجي. كنت دائما أفتخر به أمام صديقاتي في الكنيسة، أن هذا الرجل الذي يسمعون صوته هو أبي. لقد كان مصدر فخر لي دائما، بإخلاصه الشديد لكل ما يفعله وكل من حوله، وحبه لأسرته وتضحياته العديدة من أجلهم. لكن أكثر ما كان يميز أبي هو الاصرار على التعلم والنجاح والعمل، وقد ورثت عنه ذلك.
كنت أفخر كذلك بكون أبي أحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة، وأحب أسمع حكاياته عن الحرب، وذكرياته مع زملائه في الكتيبة العسكرية، الذين ظل يحفظ اسمائهم حتى أخر يوم في عمره. كان يعتبر الحرب والنصر أعظم عمل شارك فيه. يعلق شهادة التقدير التي حصل عليها من القوات المسلحة بفخر في صدر صالة بيتنا. لم يحصل أبي على معاش كجندي من جنود النصر. ولم يحصل على وظيفة. أو أي تكريم يليق به. كان أبي يستحق تكريما يليق به من الدولة، هو وكل أبطال أهم انتصار عسكري في تاريخنا الحديث، الذين لازالوا على قيد الحياة يجب تذكرهم وشكرهم وتكريمهم على ما  قدموه ولو بكلمة شكر وعرفان فقط.
في أخر عام لأبي قبل وفاته، لا أعلم ما الذي جعلني أتقرب منه أكثر، أسجل له لقطات فيديو وهو يقرأ في الإنجيل أو يلاعب ابنتي الصغيرة، أسجل كل ذكرياته وحكاياته. ضحكة له مع أمي. كنت أجعله يشاهد ما قمت بتصويره لأرى ضحكته. هل كنت أعرف أنك ستغيب عني فجأة يا أبي؟ فحاولت الاحتفاظ بأكبر قدر من الذكريات معك؟ أتذكر الآن مدى سعادته عندما قمت بعمل عيد ميلاد له قبل رحيله. كانت المرة الأولى التي يقام له عيد ميلاد في حياته. كان سعيد كطفل. لم أكن أعلم أني أودعك بهذا الاحتفال يا حبيبي. اقترب عيد ميلادك فكل عام وأنت بخير. نم هانئا لن يحذرك أحد الآن من مخاطر تناول الحلويات التي كنت تحبها.
أيقنت أن أبي كان يشعر بقرب رحيله، عندما استعيد ما كان يفعله منعنا قبل مرضه الأخير، وتوصيتنا على أمي وتوصيته لأشقائي الذكور على البنات. كان يمسك بيد أخي الأكبر “ميخائيل” ويريه كل حسابات تجارته، وكل ما له وعليه، وهو الذي ظل طوال عمره، لا يجعل أولاده يحملون هما، حتى بعدما كبروا وتزوجوا وأنجبوا له الأحفاد. كنا نضحك عليه ونحاول تغيير الحديث عن الموت بالضحك والهزار. لكنه كان يعلم أنه سيرحل، وقالها لي في غيبوبته الأخيرة بالمستشفى، حتى بعدما أفاق، قال لي “أنا هامشي خلاص”.

يقول الجميع لكي يواسوني اليوم أنه قد أدى رسالته، كان أبي الابن الأكبر لعدد كبير من الإخوة والأخوات، تولى هو رعايتهم وتربيتهم بعد رحيل جدي، حتى كبر أعمامي وعماتي وتزوجوا وفتحوا بيوت. كبر ابناءه وزوجهم ورأى أحفاده يلعبون حوله. واطمئن على الجميع قبل رحيله. لكني لا استطيع أن أنسى أنه لم يرتح يوما طوال حياته. يعمل بلا هوادة أو راحة كل يوم. كان يكره الراحة ويقول ” لو قعدت يوم في البيت أموت”. حبيبي يا بابا.. أتمنى أن تكون مرتاحا الآن من الشقاء والتعب يا حبيبي. لقد اختار الله لك أن ترحل فجأة دون تعب أو معاناة طويلة مع المرض، لكنك رحلت مبكرا جدا، وقبل أن ترى ابنتي “ضي” تكبر وتأخذ منك عيدية العيد، وتلعب معك، وتعلمها اللغة القبطية. سوف أحكي لضي عنك يا حبيبي، لقد حرمت هي منك مبكرا، لكنك ستظل دوما في قلبي.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
11
أحزنني
3
أعجبني
4
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان