أحفاد السيد أحمد عبدالجواد ومسخ الذكر المصري
-
أحمد الفخراني
روائي وصحفي مصري
كاتب نجم جديد
لم يعد سي السيد أحمد عبدالجواد صالحا للتعبير عن الذكر المصري حاليا ولا ضحالته في تلك اللحظة من الزمن، بكل شعوره الفارغ بالاستحقاق وذلك المزيج ما بين الغطرسة والشعور العميق بالدونية، النطاعة والطفولة، الخسة والزهو التافه، وهو ما لا أسحبه بالقطع على عموم الرجال، لكن على النموذج الطاغي في الواقع الذي نلمسه يوميا، والذي يتمسك بصورة أحمد عبد الجواد، لكن في نسخة أكثر رداءة وعنفا وهمجية من الشخصية التي صورها نجيب محفوظ في رائعته الثلاثية.
نسخة الذكر المصري الحالية، تشترك مع سي السيد في شيء واحد هو عدم إدراكه لتناقض سلوكه، جعل سي السيد لنفسه صورتين أحدهما أن يكون طاغية في بيته ومنفلتا خارجه حد أنه لا يتورع أن يجعل من نفسه هزأة، لكن هناك فارقاً جوهريا أن أحمد عبدالجواد كان يملك القدرة على تحقيق الصورتين فعلا بكل ما فيهما من عوار، بينما الذكر المصري المعاصر لا يملك إلا الرغبة والتمني، فحقيقة ذلك الذكر هي العجز وفقدان الكرامة وعزة النفس وحماية أسرته حقا وصدقا، فهو مهزوم إلى أقصى الحدود لا يستند فيما يطالب به من استحقاقات إلا لأساطير عن نفسه تخطاها الزمن، وكلما أوغل في التشبث بها تحولت صورة الوحش داخل نفسه إلى مسخ.
ذلك المسخ هو ما رصده نجيب محفوظ مبكرا في الثلاثية، فجزء كبير من عبقريته في رسم الشخصية إنه انطلق بها من لحظة ذروة إلى لحظة أفول وانهيار ظلت تتحقق ببطء، بدء من اكتشاف ياسين الشخصية السرية للأب في بيت الغواني، وهزيمته المذلة أمام ياسين في التنافس على زنوبة، وعندما يصبح مثار سخرية بين ياسين وكمال في إحدى الحانات، ومع تقدم الرواية تحصل أمينة المقهورة على حريتها في الحركة، بينما يظل هو أسير بيته.
كان نجيب محفوظ يدرك أن تلك الشخصية الطاغية التي ورثها الذكر الشرقي في مرحلة انهيار، وأن نمو شخصيته في مقابل قهر شخصيات من حوله، ليست حقيقة راسخة بل مجرد عبء تاريخي يقف ضد الزمن، وأن تلك السلطة القاهرة التي محت أمينة، وكرست داخل نساء العائلة قبول الاستبداد، لم ينتج عنها إلا ذكورة مشوهة مترددة خائفة، تمثلت في الأبناء الثلاث، ياسين الذي لم يأخذ من الأب سوى هوس مرضي بأجساد النساء استخدمه لاحقا في الانتقام من أبيه، ولم يجد معنى لحياته إلا أن يجعل منها لهوا دائما ودورانا في فراغ يوفره له استحقاق الذكورة في مجتمع شرقي، ورغم أنه يبدو أكثر تساهلا ولينا، إلا أن ما يسمح به لنفسه من حرية جنسية لن يسمح به للنساء، أما فهمي كما يلاحظ الناقد العراقي عبد الله إبراهيم في المجلد الأول من موسوعة السرد العربي، يظل سلبيا بين زملائه الثائرين، يتأخر حينا أو يلوذ مرتعدا بمكان آمن عند مواجهة الإنجليز، والخوف المستبد به يحول دون الانخراط الكامل في ثورته لأنه خاضع لنظام يحول دون التصريح بموقف ضد الاستعمار، كانت أعمال البطولة تتراءى لعينيه باهرة تخطف الأبصار، لكن كانت تخذله أعصابه في اللحظة الحاسمة، فما أن تنحسر موجة المعركة حتى يجد نفسه في المؤخرة إن لم يكن مختبئا أو هاربا، لكنه يُقتل في الوقت الذي يتبلور فيه وعيه بهذا الخوف وأسبابه، وكأن القتل هو عقاب الخروج على النظامين الأبوي والاستعماري.
أما كمال، فيظل شخصية ضائعة في تيهها، ضعيفة في قراراتها، تعرف أن الحل هو في التمرد على صورة الذكر كما مثلها أبوه، وتظل نظرته للأنثى مشوهة، مقسومة بين جسد مدنس أو روحا ملائكية لا تمس، فلا يعرف ممارسة الحب إلا مع عطية البغي، أما عايدة فلا يتمكن من رؤيتها إلا بطريقة سامية لا تجعل منها إنسانا بل مثالا، في الحالتين يمنع إلحاق الأنثى بنفسه، فيتضاعف خواء صورته، بعد أن صار عاجزا عن منعها من الالتحاق بالمجتمع.
ربما انهار الطغيان الجليل والمهاب والفظ والجاهل لأحمد عبدالجواد في الرواية وفي الواقع، أما ذكوره الممسوخة فما زالت تنهش استحقاقاتها المتخيلة من لحم أرواحها المعطوبة، فلم تعد تملك إلا مزيداً من التوحش والانحدار، وهو ما ينفيهم خارج الزمن. لا نجاة أمام صورة المسخ إلا بالتخلي عن تفاهته، وحده الصوت الأنثوي داخله أو داخل المرأة قادر على إنقاذ ذكورته المتخيلة ومزاياها، أو على الأقل كما ناجى كمال أباه عندما حاول أن يلتمس الجانب المضيء داخل روحه المظلمة: الحيوية والقدرة على الحب، حب الناس والحياة، فلم يعد الذكر المصري في ذلك الزمن إلا عدوا للحب وللحياة.
الكاتب
-
أحمد الفخراني
روائي وصحفي مصري
كاتب نجم جديد