أربعينية الشيخ الفذ.. ما لم يقله المترفون عن الزاهد السيد إمام
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد
جاءت ذكرى الأربعين للمترجم الرمز والناقد الكبير السيد إمام سريعة فعلا؛ كأنه أراد، من مكانه هناك، أن تنتهي حسابات الحداد عليه في لمح البصر، ذلك أنه عاش متفائلا بالرغم من كل الظروف المعقدة والحواجز المنيعة، وكان يكبر الآملين، ويتمسك بالحياة، وينفخ في العالم روحا تفتح انغلاقه الذميم وتنير آفاقه المعتمة!
الشعراء والكتاب الذين كتبوا عنه أوان رحيله، وكذلك المفكرون والمثقفون الذين دبجوا رسائلهم إليه تدبيجا بعد أن ودع حطام الدنيا؛ مترفون بالنظر إلى حالته، لا أعمم الحكم طبعا، ولا أذم ناعين وراثين أظنهم مخلصين متألمين، وإنما أوصف واقعا صادقا، ليس انتصارا للرجل على حساب أحد، وقد كان يمتدح وسطه قدر ما ينتقد مثالبه، لكنه كان يصنع الأحداث أو يتوقعها بشفافيته، لا يبتغي أجرا، وكانوا ينتظرون وقوعها خاملين، أجرهم الراحات، ثم يتحدثون عند جريانها بعمق زائف!
هؤلاء الذين أرسم حدودهم من النخبة ليسوا مترفين على معنى أنهم أغنياء يتمرغون في بحبوحة عيش، ليس هذا ما قصدته، فأغلبيتهم فقراء ماديا وإن أغنتهم المعارف، لكنني قصدت شراءهم لمعنوياتهم من حيث تجردهم من القضايا عموما، يكتبون شعرا وأدبا فقط، ويتكلمون كلاما كثيرا فقط، يتأخر ما يكتبونه وما يقولونه عن الوقائع، كما أسلفت، ويبدو محملا بالدلالات الفكرية والثقافية النبيهة الواعية، وحيويا، ولكن الحقيقة الصادمة أنهم لا يتأخرون عن مهلة تأمل وطول هم ولا يكتبون ولا يثرثرون بعزائم تغيير وإحاطات خبرة، بل إذا طالعهم نظر ثاقب وجدهم أوعية فراغ.. (مغازلات وجدانية محضة) هذاك قصدي آنفا بالضبط، وليس جديدا، للأسف، أن جماعات عديدة تشتغل بالشعر والأدب والفكر والثقافة هذا حالها بالفعل، ولم يكن حال الشيخ الجليل هكذا قط منذ بواكيره إلى الختام..
عاش السيد لا يبالي بمعتقدات الكسالى، كان يقاتل قتاله الخاص في مجاله الدقيق، وقتاله العام على صفحته في السوشيال ميديا، يقاتل أعداء الجميع لا أعداءه وحدهم، يقاتل الرداءة والمجانية والتشدد الديني والعبث الدنيوي ومعاداة العقل والعلم، بل حتى القتال نفسه كان يقاتله، عنيت أنه كان لا يحبذ المحاربة أصلا،
لكنه لا يجد سواها طريقا لقهر الأجواء الخانقة المظلمة، ليس في يده سلاح مادي فتاك بالطبع، وإنما يراع ولسان ذوا حبر وصوت نافذين في القلوب بنور الخاطرة الألمعية والإلهام الصافي..
لم ينتقل السيد إمام إلى القاهرة، نأى بنفسه عن الصخب الذي تهافت عليه الآخرون، الصخب الذي لا يعكس معظمه فهما مستقيما للشهرة ولا الغنى ولا حتى مرح السهر الجماعي، فضل موقعه الحميم بتفاصيلة الحميمة، وقرابته، ورفقاء مشاويره من بداياتها (أبرزهم صلاح اللقاني، الشاعر والمثقف النبيل الضخم).. دام مولانا في إقليمه البحراوي الهادئ، في بيته البسيط بدمنهور، ملاصقا لآلئه المكتبية، وتلك مداراته التي طالما دخلها جهابذة حجوا إلى جباله البواذخ..
لم يكن له نصيب في الجوائز التي تذهب إلى تلاميذ تلاميذه أمام عينيه، تذهب إليهم بأية طريقة، ولو بتعاويذهم الشيطانية لكي ينالوها، ولم يكن تحت أعين من يملكون الدروع وشهادات التقدير والأظرف المالية المنتفخة؛ فاختياراتهم للتكريم كانت عمياء، ومثله للبصيرين!
نال جوائز محدودة وتكريمات لا تناسب أقله؛ لأنه كان يعمل بإخلاص وجدية فقط، ويقينه الإيماني يفيده أن المبدع معه من “يسمع ويرى” كما الشخص العادي، ولم يكن بالأساس يفرق بين المبدعين والعاديين كمن اعتادوا التمييز الناقص بين البشر؛ فرأيه أنهم سواء ولو تباينت ظواهرهم..
حوت ضلوع السيد إمام جذورا جنوبية صعيدية لم يفاخر بها جهرا قط، مع اعتزازه بحوايته إياها طبعا، لأنه ظل ينتمي إلى المفهوم التاريخي للإنسان برحابته، لا الجغرافي الضيق، مكتفيا بما عرف الناس عنه من الانتماء إلى مدينته البحراوية، كأنه الانتماء الوحيد، وربما في أعماقه كان يحس بجمعه بين حسنيي الوطن، شمس الجنوب الصلبة ونسائم الشمال اللينة، ولكن كما دثرته مدينته بدثارها اللطيف الجذاب أورثته جذوره قوة على تحدي المخاطر المعطلة وحدة في الطبع، وقدر ما فرح بقوته على تحدي عراقيل تقدمه عانى من حدة طبعه؛ لأنه لم يكن يود أن تتسبب عصبيته في توتر محيطاته الدانية أو النائية، ولكنه وازن بين ممتلكاته فوق الاستطاعة، ثم صنع صنعا خارقا يساوي بينها بالتمام، ليبرز، كما برز، نسيجا متعادلا بكل معنى الكلمة؛ فاستواء قناته التي شقها من قناتين متغايرتين لا يشبهه استواء، وقد عاش ما عاش لم يزعج أحدا بسرعة انفعال ولا خشونة زائدة مهما ظهر أحيانا متحمسا للشجار!
وفاة ابنه هشام كانت قاسية جدا، أهلكته لأنها كانت الأولى في الأسرة، وإصابة حفيده الصغير (ابن ابنته سارة) بمرض خبيث كانت هما إضافيا جاثما على صدره المثقل بالهموم أساسا، وبخصوص صاحبة عمره، السيدة الصبور الطيبة وافرة النعم، فكانت، ومعها ابنتهما لبني، بمثابة نبضتي قلبه اللتين يراقب من خلالهما سلامة الأشياء، فإما يطمئنه ظل السلامة، وإما يجتهد في تدبيره لنفسه من ذات تدبيره لهما، وهو شخصيا مرض مرضا عضالا في أواخر سنواته، تحمله بلا شكوى، وكان ينهى عارفيه أن ينوهوا عنه، ولو بالمجاز.
وأما ابنه الروائي اللامع طارق، قرين الاختلاف والدهشة والآيات الفارقة، فكان أهم شواغله خصوصا حين هوجم بضراوة، هوجم إنسانا ومبدعا، واستقطب مهاجموه المريبون إلى سوحهم سذجا ومرجفين وذوي أغراض.. كان يقول لي، في مهاتفات طويلة كنا نتبادلها حينذاك، يقول بحرارة لاهبة: لماذا لا يعاملون الممتازين المتميزين بطريقة تعزز التفوق والانفراد فلا تفني شيئا واحدا من جمالهما البتة؟! أليس الجمال أيقونة عبقرية ينبغي الحفاظ عليها؟! وكان يحدثني عن خصوم كثيرين، لا يسميهم، ثم يقول لي، ضمن ما يقول، إنه يعرف فساد ضمائرهم لأنهم خونة قريبون من خواطره، وليسوا بعيدين فيجهلهم كالبعيدين، وربما بدا متأثرا في إحدى المهاتفات إلى حد تخيلي أنه بكى خفيفا، وكثيرا ما كان يبكي في الحقيقة لرهافته.. وإنما بكى، لو كان بكى بالفعل وقتما تصورت سيلان دمعه، على انهيار مجتمع الموهوبين الكبار، بكى بطاقة خائف على مصير الفنون نفسها ومصائرهم، ولم يبك شاعرا ضعفا ولا مستشعرا هزيمة..
لدي كثير عن العمود الراسخ الذي بفقده اضطرب البناء، الكيان الراصد المؤتمن المتواضع النادر، بما في ذلك مناماتي التي تراءى لي فيها ناصعا بعد أن لامست روحه سحائب العلياء، وهي التي سأرويها لاحقا، ويمكن معاملتها كنصوص معتبرة لا كأضغاث أحلام!
الكاتب
-
عبد الرحيم طايع
- شاعر وكاتب ولغوي - أصدر ثلاثة عشر كتابا إبداعيا - حصد جائزة شعر العامية من اتحاد الكتاب المصريين في ٢٠١٥ - كرمته وزارة الثقافة في مؤتمر أدباء مصر ٢٠١٦ - له أكثر من ٥٠٠ مقالة منشورة بصحف ومواقع معتبرة
كاتب نجم جديد