
أسعد في قلبي ومفتاحه.. حين يصبح الإنسان دراما قائمة بذاتها

-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
لا شيء يسبق الشخصية ولا شيء يفوقها أهمية في الدراما؛ فهي الروح التي تنبض في النص، والمفتاح الذي يربط خيوط الحبكة ببعضها، والدافع الذي يحرّك عجلة السرد، وقد تتسم القصة ببناء محكم وحبكة متقنة، لكن من دون شخصية متجذرة في الواقع، تنبض بالحياة، يصبح العمل مجرد هيكل أجوف، فاقد للعمق والتأثير.
المشاهد، حتى وإن لم يكن ناقدًا أو محللًا فنيًا، يمتلك حسًا فطريًا يجعله ينجذب إلى الشخصية التي تبدو حقيقية، التي تعكس صراعاته الداخلية وتخبطاته الإنسانية، التي تضعه أمام نفسه بلا أقنعة. أسعد في قلبي ومفتاحه كان تلك الشخصية.
فلم يكن أسعد في قلبي ومفتاحه مجرد بطل أو نقيضه، لم يكن ملاكًا ولا شيطانًا، بل كان إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، رجلٌ يقف عند الحد الفاصل بين الفضيلة والرذيلة، بين الحب والأنانية، بين التقوى والضعف البشري. شخصية معقدة، متناقضة، عصية على التصنيف، تتلون بتفاصيلها، لا تخضع لمعادلة الخير والشر المطلقة، بل تعكس هشاشة الإنسان وتناقضاته.
أسعد.. الشخصية التي تحولت إلى الحدث نفسه
الدراما الحقيقية ليست تلك التي تقدم لنا نماذج مثالية، بل التي تضع أمامنا مرآة نرى فيها أنفسنا بوضوح؛بضعفنا وتناقضاتنا، برغبتنا في الخير واستسلامنا أحيانًا للشر. أسعد كان تلك المرآة، فلم يكن مجرد جزء من الحدث، بل أصبح الحدث نفسه، النواة التي تدور حولها القصة، الجاذبية التي تشد المشاهد إلى تفاصيلها، تجبره على التأمل في دوافعها، ومحاولة فك شيفراتها النفسية.

لم يكن أسعد رجلًا يسير وفق منطق واضح أو مسار درامي مألوف، بل كان شخصية مشبعة بالصراعات الداخلية، أقرب إلى ساحة معركة بين ما يريده وما يجب أن يكون، بين ما يشعر به وما يفرضه عليه المجتمع، بين محاولته للتمسك بمثاليته وبين انجرافه نحو أخطائه، لم يكن شريرًا بالسليقة، لكنه لم يكن خيرًا محضًا، كان صورة واقعية للرجل الذي يريد كل شيء، دون أن يدفع ثمن أي شيء، الذي يطلب المغفرة دون أن يشعر بندم حقيقي، ويبحث عن الحب لكنه لا يعرف كيف يحافظ عليه.
بين الحب والتملك.. الصراع الأبدي في شخصية أسعد
أكثر ما يجعل أسعد شخصية آسرة هو طريقته في فهم الحب، لم يكن الحب بالنسبة له مجرد عاطفة، بل كان امتدادًا لهويته كرجل يرى في الحب نوعًا من التملك في علاقته مع ( ميار)، نوعًا من السيطرة في علاقته بأخته( عالية)، أراد أن يكون الحبيب والصديق والسند، والابن البار ( في علاقته مع أمه الذي وافق على حبها وتزويجها بكل سرور، لكنه في الوقت نفسه أراد أن يكون السيد فمنع زواج أخته من صديقه المخلص، أراد أن يكون كل شيء، دون أن يسمح لمن يحب بأن تمتلك إرادتها المستقلة. هذه الرؤية للحب لم تكن مجرد جانب من شخصيته، بل كانت انعكاسًا لصراعه الداخلي، بين رجل يحلم بالحب، وبين رجل يرى الحب من خلال منظوره الخاص للسلطة.
حين انفصل عن زوجته السابقة ( ميار)، لم يكن ذلك لأنه تقبل الفشل أو اقتنع باستحالة العلاقة، بل لأنه شعر بأنه فقد إحساسه بالسيطرة عليها، وحين حاول استعادتها، لم يكن دافعه الوحيد هو الحب، بل كان هناك دافع خفي استعادة شيء شعر أنه كان ملكًا له. هذا الصراع، بين الحب الحقيقي والتملك، هو ما جعل شخصية أسعد نابضة بالحياة، ليست مجرد شخصية درامية بل نموذج نفسي قابل للتأمل.
بين التدين والانتهازية.. الدين كغطاء نفسي
واحدة من أكثر زوايا أسعد إثارة للجدل هي علاقته بالدين، لم يكن رجلًا متدينًا بالمعنى الحقيقي، لكنه أيضًا لم يكن منفصلًا عن الدين. كان يؤدي العبادات، يحرص على الشعائر، لكنه في الوقت نفسه يجد طرقًا لتبرير كل أفعاله، حتى الأكثر قسوة منها، لم يكن يرى الدين كمنهج أخلاقي حقيقي بقدر ما كان يراه كغطاء نفسي، كوسيلة تمنحه الطمأنينة، وتسمح له بالاستمرار في أفعاله دون أن يشعر بتأنيب الضمير، قتل نفس، لكنه حاول تبرير الفعل بالحج والدية، يتاجر في العملة، ويكسوا الفقراء!.

هذا التناقض بين الإيمان الشكلي والسلوك العملي ليس حالة فردية، بل هو انعكاس لصورة واسعة في المجتمعات المحافظة، حيث يُستخدم التدين أحيانًا كوسيلة لتبرير الأخطاء بدلًا من أن يكون وسيلة للإصلاح الذاتي. وهنا تكمن عبقرية الشخصية—في كونها ليست مجرد نموذج درامي، بل إسقاطًا على واقع نراه حولنا في وجوه متعددة.
محمد دياب.. حين يصبح الممثل ظلًا للشخصية
لا يمكن الحديث عن أسعد دون التوقف عند الأداء المبهر لمحمد دياب، الذي لم يقدّم مجرد تمثيل، بل خلق شخصية من لحم ودم. لم يعتمد على الصراخ أو المبالغة، بل لعب على التفاصيل الدقيقة، على النظرات التي تحمل أكثر من معنى، على الصمت الذي يسبق الانفجار، على الانفعالات الداخلية التي تنعكس على وجهه قبل أن تترجمها كلماته.
تمكن دياب من جعل المشاهد يشعر بالحيرة تجاه أسعد تارة يتعاطف معه، تارة يكرهه، لكنه لا يستطيع أبدًا تجاهله، وهذه هي أعظم إنجازات أي ممثل؛ أن يجعل الشخصية تترك أثرًا لا يُمحى، أن تظل حاضرة في ذهن المشاهد حتى بعد انتهاء العمل، أن تتحول إلى جزء من ذاكرته البصرية والشعورية.
لماذا ننجذب للشخصيات المعقدة؟
ننجذب للشخصيات المعقدة لأنها الأقرب إلين، لأننا ندرك أن الإنسان ليس أبيض وأسود، بل طيف واسع من التناقضات، لأننا نجد في هذه الشخصيات جزءً من أنفسنا في ضعفها وقوتها، في بحثها عن الحب وخوفها منه، في محاولتها أن تكون أفضل، رغم سقوطها المتكرر.
أسعد لم يكن مجرد شخصية عابرة في دراما رمضان 2025، بل كان درسًا في بناء الشخصية الدرامية المتكاملة، في كيفية تقديم شخصية تجعل المشاهد يرى فيها نفسه، يتأمل من خلالها أفعاله، وربما يعيد النظر في بعض قراراته. وهذا، في جوهره، هو ما تصنعه الدراما العظيمة أن تجعلنا نواجه أنفسنا، ولو للحظات.
اقرأ أيضًا: قلبي ومفتاحه.. عمل غير مكتمل أم رؤية فنية ترفض الكمال
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
ما هو انطباعك؟







