أسوأ زوجة في التاريخ .. أعظم زوجة في التاريخ
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد
الفيلسوف دعابة أهل الحارة، فهو بسيط ومتواضع وذو فكر ومعرفة، وقد رزقه الله بزوجة سليطة اللسان باطشة، وكثيرًا ما يتجمع أهل الحارة على أثر عراكها مع زوجها الفيلسوف، وكانت الخناقة -كعادة مشاجرتهما دومًا- تنتهي بضرب المأسوف عليه وطرده من البيت، وكان الفيلسوف يلجأ لصديقه «أحمد» النجار ليتوسط له عند زوجته فتتركه يدخل البيت مرة أخرى. أحمد النجار الوحيد من أهل الحارة الذي يعرف قدر الفيلسوف ويقدّر علمه، وكان الفيلسوف في حالة يُرثى لها حين دخل دكان صديقه.
قال النجار: «اجلس، وبعد أن تهدأ العاصفة لابد لك أن تعود».
والفيلسوف جلس يائسًا لا حولَ له ولا قوة، وحاول النجار أن يخفف عنه فذكّره بامرأة سقراط «زانثيبى».
وكانت امرأة سقراط هي الأخرى سليطة اللسان، وقد عانى منها سقراط أشد معاناة، فالرجل فقير يعتز بفقره، يعيش لدعوته وفلسفته، أما المرأة فهي كغيرها من النساء، ترى أن زوجها بلا منفعة أو قيمة، وأنه يهدر وقته مع رفاقه بلا معنى، وكانت بينهما -أيضًا- مشاجرات سجّلها التاريخ، ومنها أنه ذات مرة كان يجلس بين رفاقه فنادت عليه فلم يجب، فماذا فعلت؟ أحضرت دلو مياه قذرة وسكبته على رأسه، وكان سقراط رجلاً خلوقًا فلم ينهرها، بل قال محدثًا رفاقه: «زوجتي مثل السماء، ترعد وتبرق ثم تمطر».
وفى مرة، وكان هو مستغرقًا في تأملاته فابتسم، هنا انتفضت الزوجة متسائلة: «علامَ تبتسم؟!»، فأجاب سقراط: «تذكرت حزني فابتسمت!»، فهدأت المرأة وارتاح بالها..
سقراط هو أول فيلسوف عرفته البشرية، وكان قصيرًا وقبيحًا وبدينًا، وكان يعمل في تنظيف التماثيل، وكانت التماثيل وقتها تُصنَع من الجير، وكانت التماثيل للآلهة وهو لا يعترف بوجود تلك الآلهة، فترك عمله وتفرغ لمحاوراته فى الأسواق، ورغم ذلك كان يحث طلابه على الزواج، فكان يقول لهم: «على الشاب أن يتزوج، فإن رُزق بزوجة طائعة صار من السعداء، وإن رُزق بزوجة نكَدية صار فيلسوفًا»..
وفى مرة أخرى كان سقراط بمنزله ولم يذهب كعادته لمقابلة طلابه فإذا بزوجته تنقَضّ عليه سائلةً: «أنت هنا يا سقراط؟!»
فقال: «نعم يا زانثيب.. ولكن ما المغزى من السؤال؟!»..
«وما الذي تفهمه من الحياة كي تجيب عن سؤالي! سأعد لك الخبز والعدس، لو كنت رجلاً شريفًا تعمل مثل سائر الرجال الجادين ما كان طعامك الخبز والعدس يوميًّا»
فقال سقراط: «يا زانثيب، مَن سأل الناس غير الكفاف يكون بلا شك أعظم الناس شبهًا بالآلهة».
فثارت ثورتها: «قل هذا الهذيان لأصحابك! أما أنا فلا تهذى معي، لو أنك فكرت فى أمري وأمر أطفالي لما جُننت لدرجة أنك أصبحت تناصب الحكومة العداء».
وظن أنها تخشى عليه من بطش الحكومة فقال: «أحقًّا يا زانثيب تخشين علىَّ من بطش الحكومة؟!»
فقالت داعيةً: «ليتهم يلقون بك في غياهب السجن»..
سألها بصبره المعتاد: «عندئذ تصبحين أسعَد حالاً؟!»
ردّت المرأة بجفاء: «لولا أنى أخشى ما سيحل بي بعدك»..
قال: «إن أصدقائي لا يفتؤون يقدمون لنا النقود»
فقالت بحسرة: «وأنت دائمًا ترفضها!»
غير أنه ردّ بثقة: «بالتأكيد! أما أنتِ فسوف لا ترفضينها»..
فصرخت بحدّة: «وهل تريد أن نموت جوعًا أنا وأطفالك؟! قل لي يا سقراط.. لماذا يقتل الشباب الموسرون أوقاتهم في أمور تافهة يناقشونك فيها، ولا يتركونك تبحث عن عمل يجلب لنا الطعام؟!»..
أجاب بيأس: «لقد اشتغلت بجد ونشاط عندما كنتُ شابًّا»
وردت بيأس هي الأخرى: «وأنفقت كل ما جمعت على الناس! لقد نفد صبري»..
فقال الحكيم بهدوء: «لاحظت ذلك»..
ثم أدركت أنه سحبها بعيدًا عن هوايتها وشغَفها بالمشاجرات فقالت متحسرة: «آه.. آه.. ليت أنك تغتاظ وتفقد حلمك ولو مرة واحدة»..
فقال بهدوئه: «إنكِ تحاولين عبثًا إيقاد خشب مُبتل!»
زعقت قائلةً: «سحقًا.. إنك لن تجد من الطعام سوى الخبز والمياه»..
رد بصدق: «هذا كل ما أريد».
وانتهى الأسطى أحمد من حكايته ففرّت ضحكة من الفيلسوف، وقال: «إن مأساة سقراط تشبه إلى حد كبير مأساتي! وسقراط استطاع أن يغير تفكير البشرية كلها، وهو المؤسس الأول للفلسفة وتخرّج من تحت يده فطاحل العلم، ومنهم أفلاطون، وقد استطاع هذا الرجل البسيط أن يقدم نقلة حقيقية وقوية فى التفكير البشرى، بعدما غرقت اليونان -وهى مهد الفكر الحضاري- في الجدل العقيم والسفسطة فخرج بها سقراط إلى الحوار البنّاء والفلسفة.
وسقراط لم يكن بالرجل الجبان قط، لقد وقف في مواجهة السلطة والكهنة، سقراط كان يمارس أعظم مهنة عرفتها البشرية، وهى وظيفة الأنبياء، حتى إن البعض ظن أنه كان نبيًّا فعلاً، وهو مؤسس مذهب الفضيلة، وقد دفع حياته ثمنًا؛ فحين تم القبض عليه بتهمة «ازدراء الأديان»! وحُكم عليه بالإعدام عن طريق تناول السم، وقتها تمكن طلابه من رشوة الحراس، وكان بإمكانه أن يهرب، وهكذا طلب منه طلابه ولكنه رفض قائلا: «الهروب ليس من الفضائل!»
لقد مات بسبب إيمانه المطلق بمعتقداته الفكرية فعلاً، ولعل ذلك ما جعل منه واحدًا من أهم الشخصيات التي أثرت في هذا الكوكب، فالرجل الذي غيّر تفكير ملايين البشر دون أن يترك خلفه كتابًا واحدًا، لم يتمكن من تغيير تفكير زوجته التي كانت تراه بلا معنى، وأنه عالَة وبلا قيمة تُذكر.. لو كان الأمر بيدي يا أسطى أحمد لتمنيت زوجة كخديجة بنت خويلد، وهى نقيض زوجة سقراط، ولك أن تتخيل امرأة في مثل عظمتها، فهي أرملة وجميلة وذكية وتعرف قيمة رجلها، فانظر وتدبر الفرق، وأنت بالتأكيد تعلم كيف كانت تُدير تجارتها، وكيف استعانت بالنبي محمد لأمانته وصدقه، ولم تتورع في أن تكون هي صاحبة الخطوة الأولى. ولكن بحياء المرأة وذكائها، فطلبت من خادمتها أن تمهد له الطريق، وقد كان، ثم رفعت من شأنه المالي فتحول من راعٍ للغنم إلى تاجر، ولم تعايره قط! وهى المرأة التي أنجب منها كل أبنائه عدا إبراهيم.
وهى المرأة التي لم تناقشه حين عاد لها من غار حراء مرتجفًا من هَول ما رآه.. لم تقل له: أنت تخرّف! ما الذي يجعلك تنعزل في ذلك الجبل؟! ولم تُكِل له، بل احتوته وهو يردد مذعورًا: «زملونى، زملونى».
وكانت أول مَن آمنت به من الرجال والنساء، وكانت أول مَن توضأ وأول مَن صلّى، بل أخذته لورقة بن نوفل وهو قريب لها وعلى علم بكتاب الإنجيل، وكان أعمى، وكان ينقل الإنجيل إلى العربية، ليبت في هذا الأمر، حتى عندما حُوصر النبي لثلاث سنوات.
لاحظ أنها كانت تكبره بخمسة عشر عامًا، وكان العجز بدأ يزحف نحوها- ومع ذلك تحملت الأذى دون أن تعاتبه قط، بل كانت تقول له دومًا: «فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فـو الله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق».
انظر للزوجة حين تعد فضائل زوجها عند الضيق، أليست فعلاً نقيضًا لزوجة سقراط التي لا ترى في زوجها غير قبائح الصفات!
ثم انظر إلى حب النبي لها وقد دفنها بيديه، وبكى عليها كما بكى على عمّه أبى طالب، وقد كان موتهما في نفس السنة، بل في نفس الشهر، وكانت تقول عنها عائشة: «ما غِرتُ من أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة، وما رأيتها! ولكن النبي يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد».
وتوقف الفيلسوف عن الكلام، وتوقف أحمد النجار عن مواساته، وفكر كل منهما في زوجته، وفى العالم الخارجي، وفى الفلسفة، وتساءل النجار: أين ذهب الفلاسفة؟ لقد استطاع فيلسوف واحد أن ينشر علمه فتغيرت البشرية وتقدّمت، وله الفضل في ما وصل إليه الغرب والشرق من عصره ليومنا هذا! فإذا كان زمن الأنبياء قد انقطع، فلماذا انقطع أيضًا زمن الفلاسفة؟
وقال لنفسه: لقد كان ابن رشد آخر فلاسفة العرب، وكان الغرب قد انهالوا من علمه فنشأت الفلسفة الحديثة، والتي كانت سببًا في تطور التفكير مرة أخرى وربطه بالعلم، والفلسفة مدخل العلم، فأين الفلاسفة؟ بل أين العلماء من الأساس؟ وكان بإمكانه أن يجد الإجابة لولا أن داهمتهما زوجة الفيلسوف عند باب الدكان وهى تصيح: «إنت هنا يا منيل؟!»..
نظر الفيلسوف مرعوبًا لصديقه الذي قال: «تمسك بصبر أستاذك الأكبر سقراط».
الكاتب
-
عمرو عاشور
روائي وكاتب مقال مصري.. صدر له اربع روايات بالإضافة لمسلسل إذاعي.. عاشور نشر مقالاته بعدة جرائد ومواقع عربية منها الحياة اللندنية ورصيف٢٢.. كما حصل على عدة جوائز عربية ومنها جائزة ساويرس عن رواية كيس اسود ثقيل...
كاتب نجم جديد