سيرة موسيقار الأجيال (18) أغاني محمد عبدالوهاب التي تعرضت للانتقاد .. “أسباب وردود”
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
أهلا بكم أعزائي القراء في الحلقة الثامنة عشر من قصة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وها هي الرحلة قد أوشكت على الانتهاء، مسيرة طويلة من الإبداع والتجديد حفلت بها حياة موسيقار الاجيال، فتحت آفاق رحبة أمام العديد من الموسيقيين مطربين أو ملحنين، وغيرت ملامح وشكل الأغنية في مصر بل وفي الوطن العربي كله.
اقرأ أيضًا
حلقات سلسلة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب
لعل كثير من سميعة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب يتوقفون في سماعه عند مرحلة الأربعينات، معللين ذلك بأن ما قدمه محمد عبد الوهاب في مرحلة الخمسينات وما بعدها إنما جاء على درجة أقل بقليل مما جاء في العشرينات والثلاثينات، والحقيقة فأنا أحد هؤلاء المستمعين الذين يحبون فن محمد عبد الوهاب القديم ولا يميلون فيما جاء في مرحلة الخمسينات وما بعدها إلا لعدد قليل جدا من الأغاني.
ربما للسن أحكام أخرى تماما كما حدث مع كوكب الشرق أم كلثوم، فما سجلته أم كلثوم في العشرينات علي اسطوانات الشركات المختلفة وما غنته في حفلات الثلاثينات والأربعينات يختلف إلى حد كبيرعما غنته بعد ذلك، وهذا أمر طبيعي لحكم السن، ولكن الأمر مع محمد عبد الوهاب قد يختلف قليلا خصوصا وأنه كان صاحب فكر يسعى دوما إلى التجديد والتجربة، فما أصاب مرة أو مرتين ربما يخطيء ذات مرة ولا يلقى الاستحسان المطلوب، لذلك كانت مرحلة الخمسينات بل والستينات أيضا مرحلة مختلفة كليا في حياة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بل وفي حياة محبيه ومستمعينه.
صحيح كان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب من أوائل الموسيقيين الذين اتجهوا إلى التأليف الموسيقي الآلي بحيث استطاع أن يجعل للموسيقى البحتة أو الخالصة عشاقها الذين يستمتعون بها تماما كما يستمتعون بالغناء، كذلك كان عبد الوهاب من أوائل الفنانين الذين اتجهوا إلى التغريب الموسيقي وإلى استيراد الموسيقى الغربية بل وإلى الاقتباس من الموسيقى المختلفة في ثقافات مختلفة، إلا أن ذلك كان له أثره السلبي فيما بعد مثلما كان له أثر إيجا عند حد ما، فلعل النقد الذي وجه إلى بعض أغاني عبد الوهاب في تلك المرحلة انما كان راجعا إلى ذات الأسباب التي كانت سببا في تفرده من قبل كسعيه الدائم للتجديد والتجربة وتقديم أعمال مختلفة، فقد انتقدت العديد من أغنيات عبد الوهاب التي قدمها في تلك الفترة والتي سنذكرها بعد قليل لازدحامها بالعناصر الموسيقية الغربية كالإيقاعات المستوردة من ثقافات ليست شرقية أبدا، كذلك لفكرة الانفصام التي تتلخص في اجتماع الغناء العربي الخالص من حيث الكلمات والأداء مع الموسيقى التي لا تتناسب مع ذلك لكونها من ثقافة مختلفة تماما، والحقيقة أن كثير من أساتذة الموسيقى الذين أعرفهم جيدا وأعرف مزاجهم في السمع لا يميلون إلى أغنيات عبد الوهاب التي احتوت على مظاهر التغريب حتى قبل تلك المرحلة، على أية حال فالأغنيات التي وجه إليها الانتقاد بناء على ذلك هي:
1- على إيه بتلومني من تأليف المرحوم حسين السيد 1951م
2- أحبك وانت فاكرني من تأليف المرحوم حسين السيد أيضا 1954م
3- أنا والعذاب وهواك من تأليف المرحوم عبد المنعم السباعي 1955م
4- كان أجمل يوم من تأليف المرحوم حسين السيد 1955
5- آه منك يا جارحني من تأليف المرحوم مامون الشناوي 1956م
6- على بالي يا ناسيني من تأليف المرحوم مأمون الشناوي 1956م
7- قابلته يا ريت ما قابلته من تأليف المرحوم مأمون الشناوي 1957م
8- لأ مش انا اللي أبكي من تأليف المرحوم حسن السيد 1959م.
فكل تلك الأعمال لم تخلو من المدخلات الغربية على نوع الموسيقى والإيقاعات، بشكل دفع البعض إلى الاستهجان، ولكن شأن تطوير الموسيقى شأن أي شيء آخر فهناك من يقبله على إطلاقه، وهناك من يرفضه على إطلاقه، وهناك من يتقبل بعضه ويرفض البعض الآخر، إلا أن ما فعله عبد الوهاب إنما جاء تأثراً بشخصيته الحقيقية التي تسعى دائما لمجاراة سير الحياة وعلى أثر ذلك سار العديد من الموسيقيين كالمرحوم فريد الأطرش والمرحوم محمد فوزي، أما رأيي الشخصي في هذا الموضوع فالحقيقة أرى أن مجاراة الواقع وتجربة كل ما هو جديد أمر مطلوب لاسيما وأن الفن لا يكف عن التطور والتغير وإن كنت بعد الاستماع لفن عبد الوهاب منذ العشرينات وحتى أواخر أعماله لا أميل إلا لما كان شرقيا خالصا وقلة قليلة من الأغاني التي امتزجت فيها العناصر الغربية بالعناصر الشرقية.
أما محمد عبد الوهاب فكان صاحب وجهة نظر في تجديده وليس مجرد مقلد أو مستورد للموسيقى من الثقافات الأخرى، يقول عبد الوهاب في كتاب حياتي الذي ترجم لمسلسل إذاعي من مذكراته الشخصية: لقيت أن الفنان لو استطاع أن يمزج مشاعر بيئته بإلحاح التطور الذي يحسه لأرضى فنه وأرضى الناس، وفي موضع آخر يقول: كانت عندي بذرة التمرد على الموجود ليس لأنه شيئا قبيحا بل لتطويره وتحسينه والإضافة إليه، كنت أحس أنني أريد إضافة أشياء وأنه يمكن أن نضيف أشياء خطيرة إلى الموسيقى والغناء إذا فتحنا نوافذنا على أوروبا.
ويدافع عبد الوهاب عن نفسه في موضع آخر وكأنه في ساحة محكمة على حد تعبير البعض قائلا: هذا كان موقف الجميع في ذلك الوقت، لأن جميع الفنانين كانوا يستمعون إلى الفنون الاوروبية، فمن يقتبس يقتبس ومن ينقل ينقل ومن يتأثر يتأثر مثل الدكتور طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما.
ومع كل تلك المبررات التي تحترم خصوصا لصراحتها ومع وجهة النظر التي تتوق دائما إلى فتح نوافذ جديدة على ثقافات أخرى إلا أنها ما كانت لتصيب دائما، وتلك سنة الحياة، فيروى أن عبد الوهاب فيما كان عائدا من لندن إلى القاهرة سنة 1955م، إذ التقى بالدكتورة رتيبة الحفني، وأخبرها حينها أن يقوم بتلحين أغنية جديدة اسمها أنا والعذاب وهواك قائلا: إن هذه الأغنية ستكون حدثا في الموسيقى العربية كلها، وتقول الدكتورة رتيبة الحفني أن ظنها قد خاب حين استمعت إلى الأغنية فيما بعد، فلم تجد بها ما بشرها به محمد عبد الوهاب، والحقيقة هي على حق، فالأغنية قطعا لم تفتح أي فتح خطير “على حد وصف عبد الوهاب لها” في الموسيقى العربية، ولكن للإنصاف لا مشكلة من ذلك خصوصا أن تاريخ محمد عبد الوهاب حافل بالكثير من الأعمال الخالدة التي زادت من رصيدة عند جمهوره، وكان له كل الحق في التجربة خصوصا وأنه أنتج عام 1954م “كل ده كان ليه” و”من قد إيه” و”الروابي الخضر” و”دعاء الشرق” وكلها أغاني عظيمة خلدها التاريخ الموسيقي بما يغتفر معها أي زلل موسيقي.
على أية حال فإن فترة الإخفاق تلك على حد تعبير البعض إنما كانت نتاجا طبيعا لعنصر السن ودوافع التجربة ومثلت في الوقت نفسه مناخا أتاح للعديد من المطربين الذين تربوا في الأصل على صوت محمد عبد الوهاب أن يظهروا نتاجهم الغنائي والموسيقي، ومنهم أصوات كثيرة لحن لها محمد عبدالوهاب نفسه وتبناهم وكان سبب في شهرتهم، وهذا ما سنتحدث عنه بالتفصيل في الحلقة القادمة إن شاء الله.
دمتم في سعادة وسرور.
الكاتب
-
أحمد كريم
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال