أغنيات الإمبراطور.. هكذا يغني أحمد زكي

شكر خاص للصديق محمد عطية الذي أهداني الفكرة لأنه لا يحب أحمد زكي

قالها أحمد زكي في إحدى اللقاءات ” أنا لا أغني بل الشخصية هي من تغني” وهذا بالفعل ما حدث بلا زيادة أو نقصان، ولكن متى وكيف يأتي الغناء؟ هذا هو لغز نجاح غالبية الأغنيات التي أداها أحمد زكي، فلسنا هنا للحديث عن مطرب فزكي بكل تأكيد ليس مطربًا ولكن الحديث عن ممثل يغني ضمن سياق أفلامه.

متى يغني أحمد زكي؟

عام 1987 كان عرض فيلم البيه البواب من تأليف يوسف جوهر وإخراج حسن إبراهيم، ليشهد الفيلم أولى أغنيات أحمد زكي في أفلامه، أغنية البيه البواب أو التي نعرفها باسم “أنا بيه” الأغنية كلمات بهاء جاهين وألحان إبراهيم رجب، الأغنية التي جاءت كختام للفصل الثاني من الفيلم وبداية للفصل الثالث حيث سنرى رحلة صعود عبدالسميع البواب، جاء لتحمل معها طموح عبدالسميع الخفي، الذي يفصح عنه في لحظة غياب وعي.

عبدالسميع في رأيي هو أحد أصعب الشخصيات إن لم تكن أصعبها على الإطلاق التي قدمها أحمد زكي في أفلامه، لأن الشخصية تحمل الكثير من الأقنعة، في الأغنية يتجرد عبدالسميع من تلك الأقنعة تمامًا، ليظهر أول تطور للشخصية مع وجهها الحقيقي الوصولي، في مزيج متقن الصنع بين التخريف والبوح كتبه بهاء جاهين وصاغه موسيقيًا إبراهيم رجب، في لحن غير معقد ليناسب إمكانيات صوت أحمد زكي غير الطربية.

ومع تتبع أغنيات أحمد زكي ستجد أنه نادرًا ما لم يغني لأسباب درامية، أو لمجرد الاستعراض، وعلى الرغم من عدم نجاح فيلم أربعة في مهمة رسمية أو عدم شهرة أغنيته “إحنا الأربعة” كلمات كمال عمار وألحان منير الوسيمي، ستجد أن هنا زكي يرتدي ثوب البساطة الحقيقي لشخصية أنور عبدالمولى ليقدم أغنية لطيفة حينما يدرك أن موقفه تعقد وأصبح محاصرًا بالحيوانات التي في عهدته، مرة أخرى الأغنية هي محطة درامية مفصلية في الأحداث.

ظلت الأمور بسيطة أغنية في الفيلم مثل كابوريا وامرأة واحدة لا تكفي لتأتي أولى النقلات الأكثر تعقيدًا في محاولة الإجابة عن متى يغني أحمد زكي في فيلم البيضة والحجر، هنا يؤسس على عبدالخالق بصوت وأداء أحمد زكي منذ البداية أهمية الأغنية داخل الفيلم، بداية من أغنية “جابوا الخبر” في تتر الفيلم، التي كتبها وكتب كل أغنيات الفيلم المؤلف محمود أبو زيد فيما جاءت الألحان من تأليف حسن أبو السعود، وهنا سنجد تعريف جيد لشخصية مستطاع وكيف يرى الأمور من وجهة نظرة، الهدوء، استغلال مثالي لأغنية افتتاحية يؤسس أيضأ أن الفيلم سيستخدم الأغنيات لبيان تطور الشخصية والأهم تطور وجهة نظرها فيما حوله.

في أغنية “الدرابندوخ” سنرى أنها جاءت في لحظة ارتطام مستطاع بقاع الخرافة وانغماسه فيها بالطريقة المعتادة أو التي كان ينتهجها الدجالين أمثال سباخ، لحظة الارتطام بالقاع يعقبها مسار طويل في الارتقاء في الاتجاه الخاطئ حيث يؤسس مستطاع إمبراطوريته من الخرافات والدجل تلك المسيرة التي يقطعها مستطاع خلال أغنية “الهجايص” حينما يرينا كيف يرى مستطاع الدجال المحيطين به ومن لجأوا إليه.

في مستر كاراتيه يستغل محمد خان صوت أحمد زكي في لحظتين دراميتين شديدتي الأهمية، لحظة الانتصار الزائف ولحظة التنوير، فسنرى الأغنية الأشهر “مستر كاراتيه” أو ما نعرفها نحن بـ “أيوة يا دنيا يا بنت الإيه” كلمات سيد حجاب وألحان كمال الطويل، الذي وضع في لحنه البسيط أعقد لحظات الإحساس بالنفس والتحدي لكل العقبات والثقة، والتي ستنهار فورًا في دقائق بعد الأغنية، وفي لحنه الثاني لأحمد زكي في الفيلم ” وهو أغنية و”عرفت ديتها” يصيغ سيد حجاب وكمال الطويل لحظة التنوير ببراعة شديدة تجمع بين السخرية وبين الفهم، وعقب كلتا الأغنيتين يصطدم صلاح عبد الراضي بواقعه.

إذا في كل ما سبق تكون الأغنية بصوت أحمد زكي هي بديل مثالي للغاية لموافق درامية شديدة التعقيد، مواقف لا تتطلب مطرب أو مؤدي غنائي قدر ما تتطلب ممثل قادر على فهم كيف تقدم الشخصية تلك اللحظات لذلك جاءت الأغاني مناسبة تمامًا لأحمد زكي، وبالطبع تعاونه مع أسماء كبيرة في عالم التلحين وعلى رأسهم كمال الطويل ومعه حسن أبو السعود ومنير الوسيمي وإبراهيم رجب، استطاعوا أن ينفذوا بصوت زكي من خلال الشخصيات إلى قلب المشاهد بشكل مباشر، فقد حينما راعوا أمرين شديدي الأهمية أولا قدرات أحمد زكي الصوتية، والثانية أن الأغنية في الأصل مشهد درامي، ولكن هل هنا فقط حل اللغز، بالتأكيد لا فالجزء الثاني من الحل في رأيي أكثر إبهارًا

كيف يغني أحمد زكي؟

لعل أبرز مثال يمكن أن نبدأ منه الرحلة للإجابة على سؤال كيف يغني أحمد زكي سنجده في فيلم “استاكوزا” في الأغنية التي حملت نفس الاسم من كلمات وألحان حسين الإمام، فحينما يغني عباس العنتيل الرجل الذي أصيب في ذكورته، في ليلة فرحه فهو يغني بكل ذكوره، وهنا سنجد أن زكي يستخدم صوته بإتقان في إضافة خشونة له، زكي الممثل الذي يركز في كافة التفصيل حمل شخصية عباس العنتيل معه إلى داخل استوديو الصوت حيث سجل أغنيته، حمل كل الخشونة والذكورة الفجة ووضعها حول أحباله الصوتية، لتخرج الأغنية بهذه الخشونة الموجودة بالأساس في شخصية عباس.

تلك الخشونة الذكورية في استاكوزا لن تسمعها أبدا في أغنية كابوريا من كلمات وألحان حسين الإمام أيضًا، كابوريا يغني حسن هدهد أغنيته مرتين، مرة مبتورة كتعريف للشخصية، ومرة كاملة كلحظة تنوير في نهاية الفيلم تعيد هدهد إلى سابق عهده، سترى اختلاف بسيط للغاية في الموقفين، في البداية صوت أحمد زكي عابث للغاية، كشخصية حسن هدهد، الصعلوك الذي سيتحول لدمية في يد طبقة مخملية.

تلك النبرة العابثة اللاهية التي لا تكترث لشيء، والتي تتمرد على كل شيء تعيش فيه، تختفي تمامًا حينما يغني الأغنية كاملة في نهاية الفيلمين حينما يدرك هدهد أنه هو الكابوريا التي يغني عنها، لم يعد هو من يصطادها بل هو الواقع في الشبكة، ليخرج من تلك الحياة التي لا تشبهه، وهنا يحاول أو يبدأ في محاولة الخروج من هذا العالم، “لو قزقزوني هقزقز إيه؟” التي قالها زكي في بداية الفيلم مختلفة كليًا عن الأخيرة، فقط لأن زكي يفهم شخصياته وتطوراتها جيدًا فنزع النبرة العابثة في النسخة الكاملة من الأغنية.

أما أهم الأمثلة التي تجيب على سؤال كيف يغني زكي سنراها بوضوح في فيلم هيستريا، زين بالأساس هو مغني فرد من كورال الموسيقى العربية، إذن هناك تفصيلة شديدة الأهمية أن زين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يغني بشكل خاطئ، ولكن هذا ليس التحدي الأول أمام شخصية زين التي يقدمها أحمد زكي في هيستريا، فالتحدي الثاني كان أصعب بمراحل.

زين سيغني أغنيات لكبار المطربين أو على الأقل مقاطع منها، هي ألحان صممت على مساحات صوتية مختلفة فيما بينها وجميعها أكبر بكثير من مساحة صوت أحمد زكي ” شد الحزام على وسطك” لسيد درويش “مال القمر ماله” لمحمد فوزي، و”ودع هواك” ألحان محمود الشريف وغناء محمد عبدالمطلب، و”اسأل روحك” ألحان محمد الموجي وغناء أم كلثوم، ومقطع “وصفولي الصبر” من أغنية “ودارت الأيام” من ألحان محمد عبدالوهاب غناء الست أيضًأ، فكيف يمكن لأحمد زكي في شخصية زين أن يغني تلك الألحان الصعبة والمعقدة بشكل صحيح ومناسب وطربي؟

إقرأ أيضا

حقيقة الحجاب اليهودي

هنا ينتهج زكي أسلوب ينتهجه المطربين الكبار في حالة إعادة غناء أغنيات قديمة، ولعل أبرز هؤلاء المطربين هو مدحت صالح بالطبع، فما يفعل مدحت فعله زكي في هيستريا، زكي جاء بالأغنيات إلى أداء زين ولم يحاول تقليد أداء صاحب الأغنية الأصلي، فهو حمل اللحن إلى منطقته الخاصة وإحساسه الخاص، مما يتبع ذلك بتغير في الأداء وفي تقطيع الجمل مثلما فعل في جملة “ودع هواك ودع” بتغير طريقة الغناء لشكل متحدي تبعًا للموقف الدرامي.

تلك الحيلة أخرجت أحمد زكي من موقف لا يحسد عليه على الإطلاق، ولكن كان هناك مساعدة مهمة قدمها له محمد حلمي هلال كاتب السيناريو، فالأغنيات التي يغنيها زين هي انعكاس لحالة زين النفسية، فهو يعرفنا بنفسه في اسأل روحك، فلا يلتفت لشيء إلا لإمتاع نفسه بالغناء كيفما يحب، فيخرج إلى أقصى حدود قدراته الصوتية، بينما في وصفولي الصبر من أغنية دارت الأيام، هنا هو يواسي نفسه لا يطرب فكأنما يدندن بهدوء شديد، وفي شد الحزام ستراه يتحدى من جديد يتمسك بما يحب من جديد فيحولها إلى ما يشبه النشيد لا أغنية.

في النهاية أخيرًا يغني زين أغنية خاصة به “إن مقدرتش تضحك” من كلمات محمد ناصر علي وألحان وجيه عزيز، وسترى هنا الفرق الواضح والكبير بين ما فعله زكي في الأغنيات التي أعاد زين غنائها وبين غنائه في تلك الغنوة، فهنا وربما للمرة الأولى سترى صوت زين “بيتشرخ” ولكن حتى هذه الخطيئة في عالم الغناء جاءت مناسبة لحالة زين النفسية.

زين الذي يمني نفسه بما هو قادم بعد كل ما شاهدناه معه، وبعدما تم تسليط الضوء عليه وتجمعت حوله الجماهير، هنا لحظة الانتصار الأخيرة في الفيلم، فكان بكاء زين لا حزن ولكن فرح مخلوط بشجن، فكان الغناء أشبه بطفل يبكي ليعبر عن نفسه فلا مانع أن يعلو بصوته إلى ما فوق قدراته ليثبت أنه موجود، إن مقدرتش تضحك تشبه اللحظة التي يصرخ فيها لاعب الكرة بعد إحراز هدف شديد الأهمية على خصم كان يعتقد أنه لا يهزم.

تنويعات شديدة البساطة ولكنها أيضًا شديدة التفرد، تنويعات لا يقدر عليها إلا ممثل شديد التركيز، يدرك كيف يهمس حين يغني ويدرك كيف يوظف إحساسه لتحويل أغنية مواساه معروفة للجميع مثل شد الحزام على وسطك إلى أغنية حماسية، دون الإخلال باللحن أو الخروج عنه.

متى وكيف يغني أحمد زكي؟ ذلك السؤال سيحملك مباشرة إلى أهم مواطن السحر في موهبة زكي التمثيلية، فقط أن يتغير إحساسك تغيرًا طفيفًا فتغير من شكل وإحساس أغنية، وفي النهاية، أنت لن تجد على الإطلاق أحمد زكي الذي تعرفه أو تراه في اللقاءات هو من يغني، فزكي يغني دائما من رحم الشخصية وعن الشخصية لا عن نفسه.