ألم يسمع تاريخ علي بك بهجت عن هدم قبره
“مدفن المرحوم علي بك بهجت مدير دار الآثار سابقاً”.. رغم مرور عشرات السنوات على وفاته إلا أن شاهده والذي تأكل جزء منه بفعل الزمن يجعلك تقف أمامه تتشبت قديمك بالأرض ولا ترغب في الذهاب فتاريخ هذا الرجل المهيب والذي بفضله استخرج العديد من الآثار في مدينة الفسطاط- أول عواصم مصر الإسلامية- وكونه أول عالم في تاريخ علم الآثار المصري يجعلك ترغب في الرجوع بالزمن خاصة في تلك الحقبة التي عاش بها لتعيش معه كل ما مر به وتكون شاهد على الأحداث.
العالم علي بهجت
في رحلة طويلة سنرجع فيها للوراء وتحديدًا خلال الفترة ما بين 1858 حتى 1924 لنعرف تاريخ هذا الرجل المهيب ونتعرف على بعض الرسائل التي أرسلها عبر 32 عامًا إلى تليمذه وصديقه السويسري فان برشيم، والتي اكتشفها الناقد الأكاديمي دكتور أنور بوقا عن طريق محض الصدفة بعد عمل مشرفًا علميًا وأمينًا لمحفوظات مؤسسة المستعرب “ماكس فان برشيم” في سويسرا، ووضعها في كتاب ليصبح علي بك بهجت أكثر وضوحًا بعد أن كان غير معلومًا لكثير من المصريين آنذاك.
مولد تاريخ
في العام 1858 شهدت قرية بلها العجوز، في محافظة بني سويف، ميلاد علي بك بهجت محمود بن علي آغا والذي يعود إلى أصول تركية. تلقي تعليمه بالمدرسة الناصرية ثم المدرسة التجهيزية في القاهرة ليلتحق في العام 1882 إلى مدرسة الألسن ليتقن عدد من اللغات وهم الفرنسية الألمانية والتركية والإنجليزية بجانب اللغة العربية.
لم تكن حياة علي بهجت منعمة بالحرية والرفاهية والاستقلالية، فعندما كان عمره 24 عامًا جاء الاحتلال البريطاني على مصر وتحديدًا في العام 1882، والجميع يعلم أنه أثناء الاحتلال عانت مصر كثير من بطش كبير من قبل قوات البريطانية.
ولم تلتقط مصر أنفاسها أو تبدأ رياح الحرية في القدوم لها إلا عند ثروة 1919 التي قادها الزعيم الراحل سعد زغلول، وصولًا إلى ثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو عام 1952، التى أنهت 74 عامًا من الاحتلال الإنجليزى للبلاد، بعد توقيع اتفاقية الجلاء عام 1953.
حبه للتاريخ
نبت بداخل علي بهجت حبه للآثار والتاريخ وأصبح مولعًا بالآثار الشرقية والإسلامية ليسافر بالعديد من الرحلات إلى أوروبا ليلتقي ببعض علماء الآثار المتهمين بالشرق وكون معاهم علاقات قوية كان أبرزهم السويسري فان برشيم.
شغل علي بهجت العديد من المناصب منها معيد في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية ثم تولي رئاسة قلم الترجمة بوزارة المعارف ثم بعد ذلك مساعدًا لأمين دار الآثار العربية ثم أمينًا لها ثم تولى إدارتها ليكون بذلك أول مصري يتولى هذا المنصب الذي كان مقصورًا على الأجانب وقتها.
رسائل كنزية
وفي كتاب لا يقل أهمية عن أي أثر جديد يتم اكتشافه، للناقد الأكاديمي دكتور أنور بوقا، تحت اسم “علي بهجت أول آثري مصري” يضم رسائل الأخير عبر 32 عامًا إلى تليمذه وصديقه السويسري فان برشيم لتكون مصدر للمعلومات عن العالم الراحل.
وأوضحت الرسائل أن العلاقة بين الطرفين لم تكن علاقة مقتصرة على التحدث عن الآثار فقط بل أصبحت علاقة صداقة قوية ليكون الحديث عن الأهل والأمور الشخصية بينهم أمرًا طبيعيًا.
وفي إحدي الرسائل المتبادلة بينهم قال علي بهجت:”سلّم لي على ولادك وأمهم كثيراً وأخبرهم أنني ربما جئتهم هذا الصيف فإنْ كانت لهم مأمورية (حاجة) في مصر فقل لهم يطلبوها مني”
وحرص السويسري على تعلم اللغة العربية الدارجة وليس الفصحى فقط حتى تطرق الأمر إلى الأمثال الشعبية المصرية وساعده في ذلك علي بهجت من خلال الرسائل.
وقال علي بهجت في رسالة ردًا على صديقه السويسري:”الجواب بتاعك العربي مش بطال قوي بس فيه بعض حاجات زي دي: (وكنت زعلان قوي لسبب لزومي أسافر من مصر) الأحسن إنك تقول: وكنت زعلان قوي أكمني انجبرت (كنت مجبور) أو كنت ملزوم على السفر قوام من مصر”
وفي الوقت الذي تولي رئاسة قلم الترجمة بوزارة المعارف، بعثت رسالة إلى صديقه الروسي من موقعه التل الكبير بالإسماعيلية وحرص وقتها على توضيح محل إقامته من خلال قوله في الرسالة:” اللي هو محل الواقعة بين الإنكليز والجيش العرابي (المصري) ناظر الديوان بتاعنا دلوقتي علي باشا مبارك اللي تعرفه وهو راجل طيب خالص وأحِب إنك تبعت له نسخة من تقريرك”
وعندما كان الاحتلال البريطاني في مصر كان الموظفين الكبار الأجانب يعاملون الموظفين المصريين بطريقة غير لائقة حيث تم طرد علي بهجت من الإرسالية – المعهد الفرنسي للآثار الشرقية- نتيجة أبحاثه المشتركة مع المستعرب فان برشيم الأمر الذي جعله يستاء من تلك المعاملة ليبعث رسالة إلى صديقه السويسري يشتكي مما يحدث قائلًا:” انفصلت من الرسالة (الإرسالية) التي كنت موظفاً بها بصفة عبد أسير فانظر أخي إلى الحرية الفرنسوية وتحقق أن هذا الأمر لم يوجب عندي أدنى شيء إذ لست قاصراً على نقود الرسالة حتى اتحصل على القوت الضروري”
وفي العام 1900 حاز علي بهجت على عضوية المجمع العلمي المصري ليلقي عدة محاضرات قيمة ونُقل إلى دار الآثار وبعث وقتها رسالة إلى صديقه السويسري قائلًا: “أنا الآن مشتغل في عمل أحبه كثيراً وقد قرأت المقريزي من أوله إلى آخره وعملت له فهرساً مطولاً لنفسي أي أني أعرف الآن في أي نقطة يتكلم المقريزي عن المعنى الفلاني وأجده بسهولة عند الحاجة”
وفي رسالة بعثها بتاريخ 13 يناير 1915 قال علي بهجت لصديقه السويسري:”قد نظرت اللجنة في الجلسة الفائتة في من يخلف هرتس فتقرر أن يخلفه على الأشغال الهندسية في الديوان (الوزارة) مسيو بتريكولو ولكن بصفة مؤقتة، أما في دار الآثار فقد تعيّنت نهائياً، يعني أصبحت أميناً لدار الآثار”
ومع ذلك لم يحب علي بهجت الحياة في مصر ورغب في تركها وهذا ما كشفته رسالة بعثها لصديقه السويسري قائلًا فيها:”قد عوّلت على عدم الإقامة في مصر لأني سئمت الحياة فيها بسبب ناسها وغير ناسها وعندي ولله الحمد ما يكفيني للعيش في أي جهة”
مدينة الفسطاط
وكما أوضحت سابقًا فإن الفضل يعزى لعلي بهجت في اكتشاف آثار مدينة الفسطاط كما يرجع لمؤلفاته التاريخية ولترجماته الفضل في التعريف بتلك الآثار، مثل كتابه “أطلال الفسطاط” وترجمته لكتاب “تاريخ جامع السلطان حسن” وكتاب “فهرست مقتنيات دار الآثار العربية”
تتلمذ على يد علي بهجت العشرات من علماء الآثار المصريين والأجانب.
في يوم 27 مارس 1924 توفى علي بهجت عن عمر يناهز السادس والستين بحي المطرية، ليترك أثرًا مهيبًا في التاريخ المصري.
قبر علي بك بهجت هو ضمن القبور المهددة بالإزالة نتيجة التوسع في طريق صلاح سالم، قبورًا شاهدة على تاريخ مصر أصحابها كانوا سببًا في الكشف عن الآثار والتي كانت أحد الأسباب في إعلاء الدولة المصرية أمام دول العالم.. هل يتهد التاريخ من أجل التوسيع في الطريق؟