أمركة السينما المصرية (1) الحرب السينمائية الأولى
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
في البدء كانت أوروبا ثم جاء كل شيء، حينما خرج فن السينما من المعامل إلى الجمهور في عام 1896، كان إقبال الجمهور وقتها بدافع الفضول، فضول قادهم لرؤية هذا الاختراع العجيب، حيث يتحرك البشر بشكل مسطح على جدار أو شاشة بيضاء فارغة، نظمت السينما وقتها بنفس طريقة المسرح ولكن الفرق الأهم، أن هذا الفن الجديد يسهل حمله وتقديمه للجمهور في كل مكان دون الحاجة لتجهيزات كبيرة، فكانت للسينما نصيب في مقاهي أوروبا، خاصة باريس وبرلين وتبعتها لندن سريعًا قبل أن تنتقل الحمى إلى المركز الثقافي الأهم في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، مصر وخاصة الإسكندرية والقاهرة، لتبدأ مصر رحلتها مع الفن الجديد، السينما.
حينما حملت شاحنات السلاح السينما إلى العالم
من غير المنصف أن ندعى أن السينما في كل مكان فن مستقل بذاته، الحقيقة أن السينما فن عالمي، لا فقط من حيث الانتشار، ولكن الأهم من حيث التأثر، فالموجات السينمائية تنتقل من بلد إلى أخر، وكل بلد تضفي على تلك الموجة أو المدرسة صبغتها فتتلون بها، وتستخلص منها ما يناسبها.
البداية السينمائية في مصر لم تخرج عن أفلام قصيرة وتسجيلية، فترجع بعض المصادر بداية السينما المصرية الحقيقية إلى يوم 20 يونيو 1907 حينما عرض أول فيلم مصري تسجيلي قصير عن زيارة الخديوي عباس حلمي الثاني إلى معهد المرسي أبو العباس في الإسكندرية، لتدور العجلة السينمائية في مصر ببطء شديد حتى عام 1917 حينما أنشئت أول شركة إنتاج سينمائي وهي الشركة الإيطالية المصرية والتي شارك في تأسيسها المخرج محمد كريم، ليبدأ إنتاج الأفلام الروائية الصامتة القصيرة بفيلمي “شرف البدوي” و”الأزهار الميتة”، ولكن السؤال الأهم لماذا ظلت السينما في مصر وثائقية قصيرة حتى عام 1917؟
الإجابة على هذا السؤال تتلخص في حدث لم يشهد التاريخ مثله من قبل “الحرب العظمى” أو ما عرف لاحقًا “بالحرب العالمية الأولى”، والتي بدأت في 28 يوليو 1914، ولكن ما علاقة السينما بالحرب، الحقيقة المختصرة غير المخلة أن حينما حشدت الجيوش جنودها وجمعت أسلحتها جمعت معها سلاحًا جديدًا سلاح “السينما”.
بالتأكيد لم يكن دور السينما التوثيقي في الحرب العالمية الأولى مثل دورها في الحرب العالمية الأولى، فالتوثيق للعمليات الحربية والمعارك، لم يكن شاغل السينما وقتها، حيث اقتصرت أغلب التقارير السينمائية وقتها على تصوير أفلام قصيرة لاجتماعات القادة والمؤتمرات التي كانت تقام بعيدًا عن خطوط النيران، ولكن هذا لا يعني أن السينما كانت بعيدة عن خط النار، فهناك كان للسينما وظيفة أخرى.
حينما أصبح معروف أن الحرب ستطول أكثر مما كان متوقعًا لها، أصبحت هناك ضرورة ملحة لرفع الروح المعنوية للجنود، بالإضافة لاطلاعهم على أهم الأخبار التي تساعد في تشجيعهم، ولأننا نتحدث عن الخطوط الخلفية للجيوش، أي أننا نتحدث عن مناطق قرب مسارح العمليات، ولأن تكلفة إنشاء وتجهيز مسرح لتقديم عروض مسرحية للجنود على الجبهات عالية، وهناك مخاطرة، كانت السينما هي الحل الأفضل والأكثر عملية للترفيه عن الجنود.
وبدون استثناء نظمت جيوش الدول المتحاربة عروضًا سينمائية لجنودها في الخطوط الخلفية، وفي المعسكرات، وصحيح أن مصر لم تكن يومًا مسرحًا لعمليات الحرب العظمى، ولكنها كانت معسكرًا مفتوحًا للجيش البريطاني الذي هو الأخر بحاجة للترفيه، ومن هنا بدأ كل شيء.
الحرب السينمائية الأولى
أوروبا نفسها كانت في حالة حرب سينمائية، فرنسا بسينماتها الرائد تستقبل ما تنتجه السينما الأمريكية في بدايتها من أفلام صامتة قصيرة هزلية، لندن عادت لتتعرف على ابنها الذي هجرها منذ سنوات بسيطة وأصبح اليوم أحد رواد السينما والحديث هنا عن شارلي شابلن بالتأكيد، ألمانيا كانت لها مدرستها السينمائية المستقلة كذلك، بينما لم يبدأ سطوع السينما الروسية وقتها، تلك السينما التي تأخرت قليلا عن شقيقتها في أوروبا
أما في مصر فقد سحرت السينما عدد من الفنانين الذين شاهدوا كيف تحولت من السينما من الوثائقيات إلى الروائيات، وتعرفوا على أحدث التقنيات وقتها وكيفية إرفاق الموسيقى والمؤثرات الصوتية مع الشريط المعروض، تعرفوا على السينما الصامتة الكوميدية، تعرفوا على الكوميديا الاجتماعية بشكل مباشر، سواء من العروض التي كانت تقام في مصر بشكل رئيسي للجنود الإنجليز والأجانب أو حتى العروض الخاصة، أو عن طريق رواد السينما الذين سافروا إلى أوروبا لدراستها والتعرف عليها في خضم الحرب العظمي مثل محمد بيومي.
لتكون السينما المصرية سريعة في هضم ما شاهدته وجمعته من خبرات، ولكن لم تكن السينما الأمريكية هي صاحبة التأثير الأول في السينما المصرية، بل كانت البدايات متأثر بالسينما الفرنسية وموضوعاتها، خاصة تلك الأفلام التي حملت توقيع المخرج محمد كريم، والذي كان شديد التأثر بالسينما الفرنسية، الرجل نفسه تعلق بالسينما بسبب فيلمين فرنسيين شاهدهما في صباه أحدهم هو فيلم “فانتوماس” الذي انتج في فرنسا عام 1913، وهو كالعادة وقتها مأخوذ عن نص أدبي وهو من بدايات أفلام الجريمة والتشويق، وهذا ما ترجمه كريم في فيلم “شرف البدوي”، حيث كانت حبكته تدور في إطار تشويقي، الفيلم الذي تتباين الآراء بين عام عرضه، إن كان عام 1917 أو 1918، وإن كان الأرجح هو عام 1917 مما يعني أن السينما المصرية وبدأت في التحول إلى الروائية في عام 1917 أي قبيل انتهاء الحرب العظمى بعام كامل.
ولكن على الرغم من تأثر كريم بالسينما الفرنسية، ولكن كان للسينما الأمريكية تأثيرها على السينما المصرية، كان هذا واضحا في البدايات في أفلام مثل الخالة الأمريكانية لعلي الكسار، وبرسوم يبحث عن وظيفة لبشارة وكيم وقبلة في الصحراء لبدر لاما، والحقيقة أن بداية السينما في مصر، كانت ترتكن في موضوعاتها على المسرحيات التي يعاد كتابتها وإعدادها لتناسب الوسيط الجديد وهو السينما، أو بعض القصص والروايات الاجتماعية التي تتحول إلى مشاهد أقرب للاسكتشات المسرحية مثل برسوم يبحث عن وظيفة.
وللأسف فقدان وعدم شيوع الأفلام المصرية الصامتة الأولى لا يقدم لنا صورة متكاملة عن شكل السينما المصرية وموضوعاتها في تلك الفترة، ولكن ما تيسر من تلك الأفلام والتي قاومت بعض من نسخها الزمن والإهمال يمكن أن يعطينًا شكلًا عامًا عن السينما وقتها، وتأثرها بالسينما بالسينمات الأوروبية والأمريكية حتى وإن كانت الأخيرة في بدايتها.
الحقيقة أن الحاجز المائي الشاسع الذي فصل أمريكا عن العالم، جعل منها مكانًا صالحًا لنمو كل ما هو جديد في كل المجالات وبالتأكيد السينما من بينهم، فكانت أمريكا البعيدة عن المعادلات السياسية الدولية في أوروبا ونزعات الإمبراطوريات الاستعمارية، موطنًا مستقرًا للفنون، مناخ آمن سمح بتطور صناعات الترفيه المختلفة، وهو ما جعلها في ذلك الوقت ورغم كونها في البدايات، هي السينما الأقرب للتكامل، قبل أن تلحق بها السينما الألمانية سريعًا، وتنضم لها السينما السوفيتية، ليكون الثلاثة المدارس السينمائية الأولى الأكثر تأثيرًا في العالم، حتى وإن كان هذا التأثير في بدايته، انحصر على التقنيات الفنية والأسلوب، وابتعد قليلًا عن الموضوعات، إلا أن فترة وجيزة وانتقل التأثير إلى الموضوعات نفسها ولكن لهذا حديث أخر.
يتبع
الحلقة القادمة
أمركة السينما المصرية (2) صراع كريم وبدرخان
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال