رئيس مجلس الادارة: رشا الشامي
رئيس التحرير: أسامة الشاذلي

همتك معانا نعدل الكفة
106   مشاهدة  

أمركة السينما المصرية (3) خير في نيازي ونيازي في خير

نيازي مصطفى


في عام 1925 ظهر للعالم الفيلم السوفيتي “المدمرة بوتمكين” للمخرج السوفيتي سيرجي ايزنشتاين، وبعيدًا عن أن الفيلم – كعادة أغلب الأعمال السوفيتية – أيدولوجي بحت، ويستند على أحداث حقيقة اعتبرها السوفيت من بدايات ثورتهم، ولكن الفيلم تعود أهميته في الأساس إلى أنه أول فيلم يعتمد تكنيك المونتاج المتوازي، وهو ما كان في تلك الفترة حدث عظيم للسينمائيين في كافة أنحاء العالم، وفي رأيي أن هذا الفيلم تحديدًا هو أساس فن المونتاج، هو الخطوة التي حولت المونتاج من عملية ميكانيكية إلى فن له إبداعاته الخاصة، والمؤثرة في الصورة السينمائية، لدرجة أنه يتم وصفه الآن بأنه عملية الإخراج الثانية للفيلم.

أفيش المدمرة بوتمكين
أفيش المدمرة بوتمكين
  • المونتاج المتوازي هو التقطيع اللقطات لحدثين يحدثان في نفس الوقت بشكل متتابع يوحي بحدوثهما معًا وتأثير كل حدث على الآخر، قبل المدرعة بوتمكين لم تعرف السينما المونتاج المتوازي، كان الأحداث يتم ترتيبها بالتتابع، دون أن يتداخل زمنان معًا-

المونتاج من برلين للقاهرة

سيرجي آيزنشتاين صاحب نظرية المونتاج
سيرجي آيزنشتاين صاحب نظرية المونتاج

بعد هذا العام بدأ الاهتمام بفن المونتاج ودراسته، والتركيز عليه، لتظهر بعد ذلك موجة المخرجين القادمين من غرف المونتاج المظلمة، وفي رأيي يحمل المخرج الذي كان في الأصل مونتيرًا سمات مختلفة تظهر في سينماه، تلك السمات تتركز في الأغلب في تكنيكات السرد البصري، ولن نكن مبالغين إذا قولنا أن تأسيس السينما المصرية كسينما لها مكانتها في بدايات عصر السينما في العالم جاء في الأساس على أكتاف مخرجين هم في الأصل مونتيرين فعلى سبيل المثال هناك “كمال الشيخ” و”صلاح أبو سيف” ولكن كبيرهم الذي علمهم سحر المونتاج هو نيازي مصطفى.

صلاح أبو سيف يتكلم عن بدايته ونيازي مصطفى في المونتاج خلال حوار صحفي
صلاح أبو سيف يتكلم عن بدايته ونيازي مصطفى في المونتاج خلال حوار صحفي

نيازي مصطفى يمكن اعتباره أو مونتير حصل على دراسة أكاديمية في هذا الفرع من فنون السينما، فحصل على شهادته من قسم المونتاج في معهد الفيلم الألماني، وفور عودته تم تعيينه في ستوديو مصر، وحينما دخل نيازي مصطفى إلى غرفة المونتاج تغير شكل السينما المصرية للأبد، وتعرف المصريون على سينما جديدة سينما تحمل السحر والخيال إلى قاعات العرض، وتجعل الإبهار جزء لا يتجزأ من العملية السينمائية.

ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية لم تكن منغلقة على ذاتها، بل كانت سوقًا مفتوحًا تصب فيه أغلب سينمات العالم أفضل أفلامها، بل وتصدر ألمانيا للسينمات العالمية أحدث أجهزة وتقنيات التصوير والمونتاج والفنانين أيضًا، فبعد الحرب العالمية الأولى تدهورت الأوضاع في ألمانيا وبالتبعية هاجر عدد كبير من السينمائيين وقتها إلى عدد من البلدان وعلى رأسها أمريكا ليبدأ مزيج فريد بينهما مزيج كان له أكبر التأثير على تطور السينما.

مبنى ستوديوهات بابلسبيرج سنة 1911م
مبنى ستوديوهات بابلسبيرج سنة 1911م

في ألمانيا وعقب الحرب العالمية الأولى ورغم كل المشكلات الاقتصادية، كانت ستوديوهات “بابلسبيرج” والتي أنشأت في 1912 هي المنافس الوحيد لهوليوود الأمريكية، وفي العشرينات بدأت السينما الألمانية في تدشين أولى المدارس السينمائية وهي المدرسة التعبيرية الرمزية، ولكن بعيدًا عن ذلك كان امتياز السينما الألمانية في الأساس في التصوير والمونتاج مما حملهم إلى فتح مجال جديد مجال اسمه “الخدع السينمائية”، ولعل أشهر الأفلام التي كانت بدايات لهذا المجال هو فيلم “عيادة الدكتور كاليجاري” للمخرج روبرت فيين عام 1920، ومن هنا التقط نيازي مصطفى الخيط، من برلين إلى القاهرة، حاملًا معه أفكارًا جديدة لم تخطر على بال أحد وقتها.

مدرسة الكوميديا الأمريكية

إعلان عرض فيلم سلامة في خير
إعلان عرض فيلم سلامة في خير

أول أفلام نيازي مصطفى كان فيلم “سلامة في خير” 1937 الفيلم الذي شارك في تصويره ومونتاجه وكتابته وبالطبع هو مخرجه، الفيلم الذي جاء مخلصًا لنمط الكوميديا الأمريكية من حيث الحبكة والمعالجة، بالكوميديا القائمة على تكنيك التصاعد في الأزمات والتورط غير المقصود، وهو تكنيك أمريكي صرف يمكن أن تراه في باكورة الأفلام الأمريكية الكوميدية الصامتة لبوستر كيتون وتشارلي شابلن وغيرهم من نجوم الكوميديا الأمريكية.

والأهم من ذلك أن “سلامة في خير” بشكل كامل هو خلطة أمريكية رائعة ورائجة في الوقت نفسه، من القصة نفسها وتصاعد الأزمات وهو أمر لم يكن مطروقًا بهذا الشكل وقتها، أزمة تدفعك لأزمة أكبر بأقل قدر من الافتعال والسذاجة غير المبررة، مجرد سوء حظ وتوقيت خاطئ، تكنيك ستراه جليًا في فيلم “العصور الحديثة” لتشارلي شابلن.

بديع خيري يتكلم عن كواليس سلامة في خير وصورة تجمع الريحاني مع نيازي مصطفى
بديع خيري يتكلم عن كواليس سلامة في خير وصورة تجمع الريحاني مع نيازي مصطفى

ولكن حتى على مستوى الصورة، كان الفيلم مخلصًا كل الإخلاص لتكنيكيات الصورة الأمريكية في السينما، التفاصيل البسيطة في منزل سلامة، ملابس الممثلين، الفخامة في الفندق والتي تتناقض تمامًا مع شكل المنزل الذي يعيش فيه سلامة، والأهم من ذلك الخدع، نيازي مصطفى حمل الخدع إلى السينما المصرية، فقبل سلامة في خير لم تكن لتجد ممثل يظهر في نفس الكادر وهو يتحدث مع نفسه ويرد عليها دون مرآة، دراسة المونتاج هي ما جعلت نيازي مصطفى رائدًا في هذا النوع من السينما.

من إعلانات عرض فيلم سلامة في خير
من إعلانات عرض فيلم سلامة في خير

الحقيقة أن نيازي مصطفى نفسه مخرج من الذين لم يحصلوا على كام التقدير سواء في حياتهم أو بعد رحيلهم، نيازي نفسه كمخرج هو صاحب مدرسة متأثرة بالسينما الأمريكية من حيث تقنيات السرد البصري وأيضا السيناريو، مع تلك اللمحة الأوروبية التي تخفف من حدة وصخب السينما الأمريكية، مع الاحتفاظ بحدة وصخب ومباغتات السينما الكوميدية الأمريكية.

مشهد واحد غيّر شكل السينما المصرية

YouTube player

في واحد من أشهر وأجمل المشاهد الكوميدية في السينما المصرية من فيلم “سي عمر” مشهد ساطور “عبدالفتاح القصري” وهو يتناول الطعام مع جابر “نجيب الريحاني” ويصف له الأسلحة المعلقة على الحائط، هذا المشهد تحديدًا يمكن اعتباره تأسيسًا لفكرة أنه يمكن بناء تحول درامي حقيقي في شخصية البطل بناءً على مشهد كوميدي، وهو أمر لم يكن مطروق وقتها، فكانت الأفلام – حتى أفلام نيازي مصطفى نفسها- تعتمد اعتمادًا أساسًا على تصوير مشهد الأزمة الذي يغير مسار البطل بشكل درامي وكل ما يفعلوه هو فقط تقليل حدة الدراما، ولكن تغير الشخصية في مشهد كوميدي كان سابقة ابتدعها نيازي مصطفى ولهذا خلق لها تكنيك جديد سواء على مستوى السيناريو أو الإخراج.

YouTube player

في البداية يقسم نيازي المشهد إلى ثلاثة أقسام، الأول والثاني للتمهيد المتصاعد، في القسم الأول من المشهد يتحدث عن الأزمة، وفي الثاني يشير إلى التهديد، وفي الثالث ينفذ التهديد بشكل قوي في أمام الشخص الذي كان يقوم بتهديده، وفي خلال هذا المشهد أيضا ينقسم المشهد إخراجًا إلى ثلاث أقسام.

بديع خيري يتكلم عن كواليس سي عمر مع صورة تجمع الريحاني بنيازي مصطفى وعبدالفتاح القصري
بديع خيري يتكلم عن كواليس سي عمر مع صورة تجمع الريحاني بنيازي مصطفى وعبدالفتاح القصري

في البداية زاويا ومقاسات كادرات ضيقة تجمع بين جابر في موقف ضعف وساطور في موقف قوة، ثم تحول سريع في النصف التاني ببعض اللقطات بنفس الأحجام للأسلحة على الحائط والأهم هنا هو حركة الكاميرا، حركة الكاميرا بين سلاح وأخر متصلة كأنها حركة عين جابر نفسه، ثم العودة إلى نفس الجلسة وساطور يزداد قوة في المشهد.

نيازي مصطفى
نيازي مصطفى

في الجزء الثالث والأخير، يخرج نيازي من أحجام كادراته ويغيرها لتصبح أوسع، ولكن الأهم هنا هو حركة الممثلين، فمشاهد الحركة والعراك تحدث أمام جابر الذي يكون محاصرًا بين مساعد ساطور على اليمين وبين ساطور الذي يفتك بخصومه على اليسار، نيازي غير مفهوم اتساع الكادر في تلك اللحظة حيث بدل من أن يدل على انفراجه للبطل، يكشف للمشاهد حجم الحصار الذي فيه البطل، لينهي المشهد بلقطات قريبة لساطور الذي يبدو في قمة قوته رغم إصابته في رأسه، وجابر الذي يبدو في قمة ضعفه، لتتغير مسيرة البطل في الفيلم.

 إعلان عرض فيلم سي عمر
إعلان عرض فيلم سي عمر

تكنيك نيازي مصطفى في هذا المشهد تحديدًا ككاتب ومخرج ومونتير يشير إلى مخرج فهم جيدًا المدرسة الأمريكية الأشهر والأهم في الكوميديا، وتكنيكيات السينما التعبيرية الألمانية من حيث بناء الكادر الدرامي، وأساليب استخدام المونتاج وكيفية دمج أكثر من أسلوب قطع داخل المشهد الواحد.

إقرأ أيضا
بطن الحوت

ريمونتادا الريحاني

تخليد صورة الريحاني في دار نقابة ممثلي مصر
تخليد صورة الريحاني في دار نقابة ممثلي مصر

والحقيقة أنه من الإنصاف أن نقول إن السينما المصرية والكوميديا المصرية بشكل خاص، مدينة بالكثير والكثير لنيازي مصطفى، فنجاح فيلمي سلامة في خير وسي عمر، أسس لشكل مختلف وجديد، تحول بعد ذلك للشكل الأبرز والمميز للسينما الكوميدية المصرية، وحسم صراع سينمائي كان دائرة وقتها بين الريحاني والكسار، بل يمكن القول إن نيازي مصطفى هو سر “ريمونتادا” الريحاني على الكسار بعد فشل الريحاني الذريع في السينما في البداية وصعود نجم علي الكسار، ولكن الريحاني مع نيازي مصطفى يعود ليتسيد المشهد السينمائي.

نيازي مصطفى
نيازي مصطفى

ليبدأ فعليًا عصر جديد ومختلف كانت فيه الكلمة العليا للكوميديا جيدة الصنع، قبل يترك نيازي نفسه بصماته على مختلف أنواع الأفلام سواء حركة أو غنائية أو أفلام جريمة، وغيرها من الأشكال السينمائية التي ربما لم يبتدعها نيازي مصطفى ولكنه ساهم في تطويرها بشكل ملحوظ ومؤثر، ولكن في تلك الفترة وفي النصف الأول من الأربعينيات ظهرت أول سينما تمشي على قدمين، رجل صناعة السينما الأول وأكثر المتأثرين بالسينما الأمريكية في تاريخ السينما المصرية، ظهر أنور وجدي ليحمل السينما المصرية إلى عالم جديد لم تتعرفه من قبل.

اقرأ أيضًا 
أمركة السينما المصرية (1) الحرب السينمائية الأولى
أمركة السينما المصرية (2) صراع كريم وبدرخان

يُتْبَع 
الحلقة القادمة
أمركة السينما المصرية (4) أنور وجدي (1) ظهور النجم الأمريكي

 

 

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (2)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان