أمركة السينما المصرية (9) قامت الثورة وظهرت أفلام الجاسوسية
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
في عام 1962 عرض فيلم دكتور نو، أول أفلام السلسلة الأشهر في تاريخ سينما الجاسوسية جيمس بوند، وفي عام 1964 عرض فيلم الجاسوس للمخرج نيازي مصطفى وبطولة فريد شوقي والذي يمكن اعتباراه تمصير جيد لفكرة جيمس بوند الفكرة وليس الفيلم، ولكن في الأساس كيف بدأت سينما الجاسوسية ولماذا ظهرت في منتصف الستينات في مصر؟
من البحرية إلى الجاسوسية
الجاسوسية كلمة راسخة في العقل الإنساني، فمنذ بدأ الصراعات الإنسانية وهناك ذلك الرجل الذي ينقل معلومات قبيلة لقبيلة أخرى معادية، ولكن أدب الجاسوسية كما يحسب المؤرخون بدأ في الظهور على يد رائده الروائي الأمريكي جيمس فينيمور كوبر الرجل الذي التحق بالبحرية وطاف وجال ثم تفرغ لكتابة الرواية بعد وفاة والدة بفضل الثروة التي ورثها، ويعتبر المؤرخون فينيمور كوبر هو أول من قدم رواية الجاسوسية عام 1821 برواية الجاسوس ثم عام 1831 برواية حملت عنوان برافو.
وبما أن السينما الفن الأحدث بعد ذلك كان من الطبيعي أن تتطور وتنهل من مختلف الفنون، ولكن البيئة المحيطة وقتها لم تكن مهيئة لتقبل أفلام الجاسوسية، بل في الحقيقة أنها لم تكن بيئة ملهمة لظهور هذا النوع من الأعمال، فالسينما التي تتطور خلف المحيط في أمريكيا، فكانت بمعزل عن مسرح الصراعات العالمية في أوروبا، بينما تفرغت أوروبا للتجريب السينمائي والتطوير التقني ولم تكن السينما تطورت أو أدركت أنها جزء من العالم المحيط كانت مثلها مثل الفنون الأخرى تقدم للترفيه أو طرح القصص.
ولكن الأهم من كل هذا أن أوروبا نفسها كانت تعوم على بحر من الصراعات الإقليمية شبه المشتعلة، بسبب النزعة التوسعية، مما جعل التنافس على أشده بين القوى الأوروبية على الدول الأخرى في العالم، ورغم كل تلك الصراعات لم يشهد العالم وقت ظهور السينما وتطورها الصراع أو الحدث القادر على التأثير والتطوير في السينما، حتى قامت الحرب العالمية الأولى.
بقيام الحرب العظمى دخلت أمريكيا إلى ساحة السياسة الدولية، وأصبحت أحد اللاعبين البارزين ولم تكن تحولت لقوى كاسحة، ولكن تلك الحرب لم تضرب الخنادق ولم تصب الجنود فحسب بل ضربت السينما أيضًا لتبدأ الأفلام الحربية في الظهور، ولكن لان الحرب العالمية لم تكن سوى ضربة بداية في صراع عالمي أكبر، ظلت النيران مشتعلة تحت الرماد، وظلت أحداثها في مخيلة السينمائيين حتى تطورت السينما لتستطيع معالجة وتقديم أفلام الجاسوسية.
السينما بنت البيئة
صنفت أفلام الجاسوسية في البداية كونها فيلم نوار وأفلام جريمة مثل فيلم العميل البريطاني عام 1934 للمخرج مايكل كورتيز، وفيلم The 39 Steps عام 1935 لألفريد هيتشكوك، وكان شكل العالم وقتها ينبئ بقيام هذه السينما خاصة في أوروبا، حيث ظهرت الفاشية وبعدها النازية، وتأججت النيران لتتحول لحرب عالمية أخرى.
مع انطلاق الحرب العالمية الثانية يمكن أن نرى أن هناك تطور وظهور أكبر لأفلام الجاسوسية خاصة حينما تحول الصراع من صراع أوروبي لصراع عالمي بدخول أمريكا واليابان إلى الحرب، فظهرت العديد من الأفلام لعل أبرزها فيلم Notorious عام 1940 لألفريد هيتشكوك، ولكن الغريب أن حربان عالميتان راح ضحيتهما ملايين الضحايا لا يمكن اعتبارهم المحرك الأهم لتطور وظهور أفلام الجاسوسية، ربما لأن الصراع صراع عسكري بالأساس تلعب فيه الجاسوسية دورًا جزئيًا بينما الدور الرئيسي للتحركات العسكرية، ولكن الحرب العالمية الثانية خلفت ورائها الحرب الأهم والمحرك الأول لسينما الجاسوسية، الحرب الباردة.
حينما انقسم العالم إلى قسمين أصبحت الجاسوسية هي ميدان الحرب الرئيسي، وهذا انعكس على الرواية أولا ثم السينما لاحقًا، في عام 1953 أطلق إيان فيلمينج أولى روايات جيمس بوند وبعد 9 أعوام ظهرت أولا أفلام الجاسوس الأشهر، وبعد عامين كانت مصر على موعد مع أولى أفلام الجاسوسية في سينماها.
الثورة والجاسوسية
في مصر كان صقيع الحرب الباردة يلهب الأجواء، بعد قيام ثورة يوليو، وتحديد وجهة النظام تجاه المعسكر الشرقي، عقب العدوان الثلاثي، وزيادة ما كان يصفه وقتها الرئيس جمال عبدالناصر بالمؤامرات الخارجية، وزيادة وتيرة العداء بين الثورة والكيان الصهيوني واعتبار كلا منهما الأخر عدوه الأول، أصبحت البيئة متهيئة بالفعل لتقبل أفلام الجاسوسية.
بالتأكيد كان هناك عمليات جاسوسية كشفت على أرض مصر ربما أشهرها في شهور الثورة الأولى وهي عملية لافون، ولكن السينما لم تتأثر، والحق أنه يمكن اعتبار أن السينما المصرية لم ترى أفلام الجاسوسية كهدف أو نوع بحاجة إلى تقديمه أو حتى محاولة تقديمة قبل بداية الستينات حينما نجح جيمس بوند على مستوى العالم.
الغريب فقط في الأمر أنه رغم انحياز مصر للمعسكر الشرقي يكون أول ملهم لسينما الجاسوسية المصرية هو فيلم عن جاسوس يحارب المعسكر الشرقي، والحقيقة أيضًا أن نيازي مصطفى لم يقتبس أو يمصر فيلم دكتور نو ولكنه استوحي بعد الخطوط العريضة لشخصية جيمس بوند، أو بمعنى أكثر دقة التزم بنمط الجاسوس في السينما العالمية وقتها، أو ما يمكن تسميه بالتأثر الطبيعي لنجاح شخصية بمستوى عالمي، ولكن هناك سؤال هل كان الجاسوس فعلا هو أول فيلم جاسوسية مصري؟
تجارب ساذجة وأخرى هامة
الإجابة لا، قبل الجاسوس وفي عام 1960 كان للسينما المصرية تجربة مع أفلام الجاسوسية، وهي الأخرى كانت ابنة زمنها، فيلم وطني وحبي بطولة وإخراج حسين صدقي، فيلم يدور في دنيا الجمهورية العربية المتحدة وقت وحدة مصر وسوريا، وهو احد الأفلام التي أنتجت في هذا العصر وحملت هذا الطابع العروبي، حيث انقسمت الأحداث بين مصر وسوريا كونهم وطن واحد، والقصة بسيطة ضابط تحاول عصابة دولية دفعه لكشف أسرار مهمته الخطيرة في سوريا فيعود إلى مصر ويدعي أنه يعمل معهم بعلم أجهزة الأمن المصرية، بينما حبيبته السورية تشك فيه فتنتصر الوطنية على حبها وتبلغ عنه السلطات فتقع العصابة وينتصر الحب والوطن.
ربما سذاجة القصة نفسها كانت سببًا في كون هذا الفيلم أحد الأفلام المجهولة في السينما المصرية، وربما لم يلتفت إليه أحد خاصة وأن عام 1960 لم يكن لحسين صدقي مكانًا على ساحة السينما المصرية، فالرجل أفل نجمه سريعًا، وتطورت السينما بعده كثيرًا بينما هو مازال واقفًا عند سينما لأربعينات.
وبالعودة لفيلم الجاسوس وهو أول فيلم مصري من هذا النوع يحقق نجاحًا تجاريًا، دفع هذا النجاح لظهور عدد من أفلام الجاسوسية مثل جريمة في الحي الهادئ للمخرج حسام الدين مصطفى، ولكن عقب حرب الأيام الستة عام 1967 أخذت سينما الجاسوسية الطابع الكوميدي، ربما لأنه كان الوسيط الأفضل وقتها فظهرت أفلام مثل العتبة جزاز وأخطر رجل في العالم وعودة أخطر رجل في العالم لفؤاد المهندس، قبل أن ننتصر في أكتوبر، ونطلق العنان لأفلام الجاسوسية التي استندت على ملفات المخابرات العامة المصرية، الجملة التي ظهرت لأول مرة على شاشة السينما مع فيلم “الصعود إلى الهاوية” عام 1978 للمخرج كمال الشيخ وتأليف رائد أدب الجاسوسية المصري صالح مرسي.
ولكن على الرغم من هذا لم تقدم السينما المصرية العديد من أفلام الجاسوسية فمازال المقدم مقارنة بإجمالي الإنتاج لا يذكر، خاصة وأن هناك العديد من تلك الأعمال جاء مستواها الفني شديد الضعف مثل فيلم فخ الجواسيس والكافيير، وأفلام نادية الجندي مثل الجاسوسة حكمت فهمي ومغامرتها مع رجال الموساد في فيلمي مهمة في تل أبيب و48 ساعة في إسرائيل.
الحلقة القادمة أمركة السينما المصرية (10) حسام الدين مصطفى والكاوبوي المصري
لقراءة جميع حلقات السلسلة من هنا
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال