أمل وعبلة .. شهادة جمال الغيطاني عن علاقة “دنقل” بحبيبته
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
دائمًا ما كانت علاقة الشاعر الأسطوري أمل دنقل بحبيبته وزوجته الكاتبة عبلة الرويني باحة للكتابة عنها وحولها، نُسجت حولها الأقاصيص نسجًا، ومنشورات الفيس بوك التي لا تحلو من رائحة الشائعة ولا تنقصها المبالغات، لكن الروائي الكبير جمال الغيطاني كان قد ترك لنا وثيقة – عبارة عن مقال بعنوان “أمل وعبلة” نُشر في جريدة أخبار الأدب في عام 2003 – وثيقة قال فيها كلمته عبر شهادته عما رآه بعينيه في علاقة “أمل” بـ “عبلة” :
لا يمكنني تحديد اليوم، أو الشهر، ولا حتى السنة التي رأيت فيها أمل بصحبة عبلة، لكنني أذكر كل التفاصيل .. كان ذلك في شارع سليمان باشا. كنت قادمًا في اتجاه الميدان، وكانا قادمين منه. دائمًا كنت ألتقي أمل عند النواصي وفي الميادين، وإذا تحدّد المكان فهو المقهى. خاصة ريش، أو الفيشاوي ليلًا. التي كان يقصدها في ساعات الفجر الأولى ليمسك الطبعات الأولى من الصحف ويبادر بحل الكلمات المتقاطعة في ثوانِ معدودة وبقدرات استثنائية.
إنها المرة الأولى التي ألتقي فيها أمل بصحبة شابة حسناء. أنيقة. جميلة، وبدا واضحا أن ثمة خصوصية، وكعادتنا نحن أبناء الجنوب عندما نقابل الأصدقاء بصحبة زوجاتهم أو شقيقاتهم أو أمهاتهم، فإننا لا نحدق في الإناث، بل نصافح أو نحيي ونحيد بالنظر. عرفت أن أمل قد رسا أخيرًا في موانئ عبلة الرويني. هو الذي ظل هائمًا من أن تعرفت عليه في مطلع الستينات، أي بعد قدومه إلى القاهرة بزمن قصير. كان المناخ الثقافي في ذلك الوقت نشطًا، حميميًا، وكان أبناء الستينات يتحركون معًا، ويمضون معظم الوقت معًا يتناقشون ويختلفون ويبدعون.
لم أعرف الظروف التي تعرفت فيها أمل بعبلة إلا بعد أن قرأت كتباها الجميل “الجنوبي” الذي يعد من السير الفريدة في الأدب العربي، ولو أن مثل هذا الكتاب صدر في الغرب لتحول إلى فيلم أو مسلسل، وإلى مسرحية., فبالإضافة إلى قدرة عبلة على تصوير العالم الحميم مع أمل، ورسم صورة بديعة لشاعر عظيم، متمرد، صعب المراس في الظاهر : رقيق كالشفاف في الباطن. فإن الكتاب يعد نصًا أدبيًا رفيعًا ويرسم أيضًا ملامح فترة ما تزال آثارها فاعلة.
تعرّفت إلى عبلة كزميلة في دار أخبار اليوم، كانت وما تزال متخصصة في المسرح، وهي كاتبة وشاعرة موهوبة، لكنها مقلة، ذات أسلوب خاص، وقد أسهمت في تأسيس “أخبار الأدب” وماتزال .. مازلت أذكر لحظات عديدة في معاناة عبلة عندما بدأ المرض ينهش أنيابه في أمل، عاشا معًا بعد زواجهما تسعة شهور، تسعة شهور فقط في شقة مفروشة، وبالنسبة لي لا يمنحني تعبير شقة مفروشة الإحساس بالاستقرار، إنها كان للإقامة المؤقتة .. مثل الفنادق، ولكن أمل كان مختلفًا، فطوال أعوام من صداقتي به لم أعرف له مقرًا محددًا. والآنى اكتشف أننا لحظة افتراقنا الليلي لم أكن اسأله أبدًا عن وجهته .. إلى أين؟ .. لم يعرف أمل الاستقرار في مكان، ولم يعرف وطنه الأنثوي إلا خلال تلك الفترة القصيرة المحدودة، بعد تسعة أشهر من الزواج اكتشف إصابته بالسرطان، ثم انتقل إلى الغرفة رقم ثمانية بالمعهد، وهنا بدا عنصر عبلة الأصيل .. كزوجة مصرية، وكعاشقة، مرجعيتها شأن كل أنثى مصرية إيزيس المقدسة التي أخلصت كل الإخلاص لأوزير بعد مقتله، وعكفت تلملم أشلاءه وكلما وجدت جزءًا من جسده المقدس أقامت عليه نصبًا، حتى حملت منه وأنجبت الابن حورس في غيابه.
على امتداد سنوات .. ثلاث وعشرين سنة، تفرغت عبلة ـ شأن إيزيس ـ لأمل بعد رحيله، تلملم أوراقه ـ تكتب عنه ـ تحفظ تراثه، تسعى إلى رسائل متبقية هنا وهناك، وبين فترة وأخرى تخرج لنا أثرًا منه أو عنه، وإذا كانت إيزيس قد أنجبت جورس بعد غياب أوزير، فإن عبلة قدّمت لنا (الجنوبي) ثمرة حياتهما المشتركة معًا التي لم تطل، ويمكن اعتبار هذا العدد الخاص من أخبار الأدب. ثمرة إخلاصها لأمل وحبتها له، فجميع الصور المنشورة من أرشيف ذكرياتها .. وتخطيط العدد من وضعها، كما أنها قامت بالجهد الأوفر بالاتصال بعدد من الشخصيات البارزة للإسهام في هذا العدد.
ومن تقاليدنا في أخبار الأدب، أن يتولى أحد الزملاء الأشراف الكامل على العدد المكرس لموضوع محدد، وهل هناك أقدر من عبلة على تحرير عدد مخصص لشاعر عظيم رحل مبكرًا. ولم يكن عظيمًا في شعره فقط. إنما في مواقفه أيضًا، أن استدعاء أمل دنقل الآن، سواء في المظاهرات الأخيرة التي شهدتها مصر ضد الحرب، أو عند جماهير الانتفاضة الفلسطينية .. تعني حضوره في غيابه. وإن موقعه مازال شاغرًا، وما نأمله من احتفالية الدكتور جابر عصفور بصديقه الراحل ألا تكتفي بتناول الشاعر ولكن أن تنطلق من الأسئلة التي يطرحها غيابه والحاجة إليه، أسئلة تتصل بوضع الشعر العربي الآن وعزلته والمأزق الذي وصل إليه. وإذا كنا نستحضره بكل ما يرمز اليد من معان، فالتحية واجبه لرفيقة روحه التي أوقفت حياتها على ذاكره وعلى ما أبدعه، زميلتنا عبلة الوريني.
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال