أنا وميريت والأقصر
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
ينبعث من قلب المعابد صوت زقزقة لعبة أطفال، حين تلتفت ناحية الصوت تجد ذراعًا مرفوعًا، يضغط كفه على اللعبة ضغطات منتظمة لتصدر صوتًا مميزًا كوسيلة تنبيه للتجمع في المكان المنشود، لا ترى غير اليد الرقيقة التي يتحلّق حولها عدد لا بأس به من الرؤوس، تتسلل بين الصفوف فيسري إلى مسامعك صوت آسر يحملك إلى سبعة آلاف عام مضت، صوت بنبرة مخملية نديّة دافئة كأنه قادم منذ عصور سحيقة، ولكنة صعيدية داودية عذبة واثقة.
هناك وسط المعابد تقف الجميلة ميريت مرشدتنا السياحية برحلة الأقصر وأسوان وهي تحمل لعبتها بين يديها، ميريت ذات البشرة الخمرية، والوجه المرسوم كملامح ملكات الشرق المحفورة على جدران المعابد، تتوهج كشمس حانية تلقي على كواكبها أضواءً من التاريخ العبق بسير وحكايات لملوك عاشوا على تلك الأرض التي نقف فوقها، وقد شرفت حقًا بأن اكون فردًا من فوجها السياحي.
تقص علينا ميريت بصوتها الأخن الهادل قصة إخناتون وآمون وآتون، وتحكي كيف بعد أن تسلم الملك إخناتون إدارة البلاد، قام بتغيير الإله آمون، محاولًا توحيد الآلهة في صورة إله واحد، ودعى شعبه لعبادة الإله الجديد أتون “قرص الشمس”، مما اثار غضب الكهنة الذين يقدسون آمون، فما كان منهم إلا أن يكيدوا لمليكهم ويجهزوا عليه، لتنتهي مسيرته الإخناتونية بعجالة، وبعد وفاة إخناتون عاد آمون مرة أخرى لمكانته الأولى، كأحد أرباب المصريين، وتحكي أيضًا أن إخناتون كان متزوجًا بنفرتيتي، والتي كانت تشاركه الفكر في عبادة آتون وتظهر معه في الاحتفالات الدينية وترافقه في كل مشاهده، وكيف قامت أمه الملكة “تي” بتقديم زوجة ثانية تدعى “كيا” له، وهي والدة توت عنخ أمون.
ثم تتنتقل بلباقة إلى حكاية توت عنخ آمون أصغر ملك توفى في تلك الحقبة من التاريخ الفرعوني، واللغز الذي أحاط بظروف وفاته، إذ اعتبر الكثير وفاة فرعون في سن مبكرة جدًا أمرًا غير طبيعي، خاصة مع وجود آثار لكسور في عظمتيّ الفخذ والجمجمة، وتحكي الجميلة ميريت بتلك اللكنة الصعيدية المحببة للنفس عن زوجته عنخ إسن آمون والتي يعنى اسمها “التي تحيا لآمون” وكيف خانت زوجها، إذ ارتبكت حماقة لم يغفرها لها التاريخ، فقد بعثت برسالة إلى ملك الحيثيين – أعداء مصر وقتها- تطلب منه إرسال أحد أبنائه لها لتتزوجه ويكون ملك مصر بعد موت زوجها توت عنخ آمون، وبالفعل أرسل لها ملك الحيثيين أحد ابناءه.
تقص ميريت علينا أيضًا كيف تم اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، وعن هوارد كارتر الرسام البريطاني الذي كان أول بشري منذ أكثر من 3000 سنة يطأ قدمه أرض الغرفة التي تحوي تابوت توت عنخ أمون في عام 1923، تلك القصة التي قد قرأت عنها يوما في رواية يوم غائم في البر الغربي للعبقري العظيم محمد المنسي قنديل الذي لم يفشل أبدًا في ابهاري، مثلما لم يخذلني مطلقًا، والذي عندما يجدل التاريخ بالسرد الروائي لا تملك إلا أن تفغر فاك، وتحبس أنفاسك لتستعد للإقلاع في رحلة لأزمنة أخرى بكامل تفاصيلها الدينية والسياسية والإجتماعية.
وفي وادي الملوك و حين دخلت مقبرته، وقفت في خشوع اتأمل تلك المومياء التي تبتسم في هدوء ورضا و إِطْمِئْنان، وشاهدت التابوت الذهبي الذي كان يحتضن هذا الجسد الصغير، وبكل دهشة الكون رأيت تلك الرسومات فوق الجدران بألوان لم تطمسها آلاف السنين.
لكل من يهمه الأمر، أنصحكم بزيارة الأقصر في أقرب وقت، حتى إن إقترضتم ثمن مبلغ الرحلة مثلما فعلت، فهناك سوف تشعرون بعظمة التاريخ الذي يقف بشموخ شاهدًا على مجد أولئك الأجداد، ومهما كان مرشدكم فسوف تستمتعون، ولكنني بكل فخر ويقين أعلنها : من حسن حظي أن الجميلة ميريت كانت مرشدتي.
الكاتب
-
مريم المرشدي
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال