أهل الكوميديا (1) كشكش بيه.. مؤسس فن الكوميديا العربية

لم يكن نجيب الريحاني يؤمن بالكوميديا، فقد كانت هوايته منصبة على الدراما فحسب.. ولكن، ذات صباح، وأثناء جلوسه مع عزيز عيد، وروزاليوسف، وأمين عطا الله، وأمين صدقي، واستيفان روستي، وحسن فايق، وعبد اللطيف جمجوم، على مقهى متربول.

مجموعة من الفنانين طحنهم قسوة الزمن والظروف القاسية، وجمعهم حلم واحد: تقديم فن حقيقي للجمهور، جيوب خاوية وعقول عامرة تبحث عن ملجأ أو مساعد، فإذا بصاحب المقهي، الخواجة اليوناني، يمد لهم يد العون، ويقرر أن يدعم الفرقة بمبلغ عشرة جنيهات، مقترحاً أن تقدم الفرقة الواعدة عروض كوميدية، وهكذا نشأت فرقة الكوميدي العربي، وهي أول فرقة تمثيل عربية تهتم وتختص بالكوميديا.

وقدمت الفرقة عرض مقتبس من رواية فرنسية بعنوان (خالي بالك من إيملي) ولكن نجاح الفرقة -والتي تحولت لفرقة جوالة، تجوب المحافظات والقري المصرية – لم يدم طويلاً، فهجرها نجيب الريحاني، وظل قرابة الشهر ونصف الشهر يبحث عن عمل أو إعانة.. وفي تمام الواحدة ظهرا بشهر يونيو عام 1916م .. كان يجلس ببوفيه تياترو برنتانيا فإذ به يرى شخصا يهبط عليه في سترة فاخرة، ويقبض على عصا ذهبية. فلما جلس إلى جانبه أخرج من جيبه علبة سجاير فاخرة من الفضة وفي حركة أرستقراطية فخمة مد يده بسيجارة فاخرة.

لم يكن هذا الشخص غير استيفان روستي، الذي تعاقد مع الخواجة روزاتي صاحب كباريه أبيه دي روز، ليقدم عرض راقص كخيال ظل، وقد أعلن الكباريه عن وجود راقصة فرنسية جميلة ستقدم رقصاتها من خلف ستار يصحبها عبد نوبي، وأن الستار سيزيح ليكشف لنا عن جميلة الجميلات بعد ثلاث ليال.. ونجحت الفكرة، وتكدس الجمهور لرؤية هذه الراقصة الفاتنة، والتي لم تكن في حقيقة الأمر غير استيفان روستي ومساعده النوبي نجيب الريحاني.. بعدها استمر الريحاني واستيفان في تقديم العروض حتي أعلن الخواجة روزاتي إفلاسه وكاد أن يبيع محله. ولكن نجيب – وقبل البيع بأيام- كان مستلقيا ليلا بفراشه يعيد حساباته، ويراجع ما حدث في حياته… فإذ برؤية أشبه بالحلم تنتابه فجأة: رجل ريفي بجبة وقفطان، باع محصوله من القطن وجاء إلى القاهرة، ليسقط ضحية فتيات الليل.. وتساءل الريحاني: لمَ لا نقدم قصه عمادها هذا الريفي – كشكش بيه، عمدة كفر البلاص- وتقديمها للجمهور؟ وبالفعل، استطاع أن يقنع الخواجة وزوجته الجميلة ليليان بالفكرة.. وقدم نجيب أول عروض شخصية كشك بيه التي لاقت نجاح كبير، وعلى أثرها ازدهرت الحالة المادية للكباريه، واستثمر نجيب هذا النجاح فضم الفنان محمود المصري (شلفنطح) أو زعرب، وعكف على كتابة ثلاث مسرحيات وإخراجهم وتمثيلهم أيضاً كل أسبوع، وكانت أشهر تلك المسرحيات بعنوان (بلاش أونطة) وذاع صيت كشك بيه، وانتقلت نكاته عبر الجمهور ثم تسللت إلى الشعب المصري بأكمله، الأمر الذي دفع الخواجة لاستغلال شيوع الشخصية، ورغبة الجمهور المتعطش، فتحول الكباريه لأول مسرح حقيقي ينقسم إلى درجتين، وطبع تذاكر لأصحاب الدرجة الأولي: 15 قرشا، والدرجة الثانية: 10 قروش.. وتعتبر تلك الواقعة حجر أساس لأول مسرح يتم دخوله بتذاكر.

وعاش الريحاني أجمل أيام حياته، لم يعكر صفو الأيام غير مشاحنة حدثت بينه وبين روزاتي جاء على أثرها الانفصال.. بعدها انفصل عنه أمين صدقي المؤلف المشارك، فاكتشف الريحاني مبدع جديد يدعي بديع خيري، وتعاونا معاً على تقديم الكثير من المسرحيات، وشهدت فرقة نجيب مجدها حين انضم لها الملحن والمطرب سيد درويش.. ثلاثي إبداعي لن يتكرر.

فعرف مسرح الريحاني الأغاني التي كانت لسان حال الشعب بجميع طوائفه المختلفة، ولعل أشهر تلك الاستعراضات ما جاء فى مسرحيات مثل: أش، قولوله، رن، ولو، والعشرة الطيبة.. وغيرها من الأعمال الناجحة والتي لا نزال نردد كلماته وألحانها حتي اليوم.. من منا ينسي: طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة، وشد الحزام على بطنك… وغيرها من الأغاني التي تغني بها الشعب المصري وقت ثورة 1919م.. الثورة التي خرجت من مسرح الريحاني. لم يستطع أحد أن ينافس شخصية كشكش بيه، حاول الكثير من أصحاب الكازينوهات أن يجدوا منافساً لهذا الكشك ففشلوا جميعا عدا مدام مارسيل – صاحبة كازينو دي باري- التي اكتشفت الوجه الجديد على الكسار وشخصيته المبتكرة: عثمان عبد الباسط.. ولكن تلك حكاية أخري سنحكيها المرة القادمة.

إقرأ أيضا

أول مسابقة لصحة الأطفال في مصر “كانت دعايةً لافتتاح مستشفى الأنفوشي”