أوراق من مذكرات “الزيبق” حافظ نجيب .. حينما يترهبن المسلم (1)
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
حينما تقرأ مذكرات حافظ نجيب لا تستطيع أن تضع إطاراً معينًا للحكي وسرد حياته في مقالات ، فهي ليست حياة واحدة بل حيوات كثيرات استمرت بين 1883 حتى 1948 .. أنت هنا أمام روائي له من الروايات ما هو عبقري، كان نجيب محفوظ يلتهم كتبه التهامًا في الصغر.. وأنت أمام شاعر وقاص له قصص مؤثرة تعد من ثوابت الثقافة المصرية.. وأنت أما محتال نصاب قضى الليالي الباردة خلف القضبان لما فعل من مكائد وسرقات ، وأنت أمام ضابط تعلم الحفاظ على أمن الناس وأنت أمام صاحب تشكيل عصابي خطير يصعب على البوليس الإمساك به، وأنت أمام مسلم اصطحبته أمه للمساجد وعلمته الصلاة على طريقة الإسلام ، وأنت أمام راهب وصل لدرجة التشرح على كرسي الباباوية .. تعلم الإتيكيت من الفرنسيين كما تعلم الجاسوسية ثم غدر بالفرنسيين نفسهم فقبضوا عليه ورحلوه مرة أخرى لمصر .. أنت الآن في حضرة حافظ نجيب بطل مسلسل “فارس بلا جواد” الحقيقي .. قرأت مذكرات- أتمنى أن تصبح مذكراته الحقيقية في النهاية- فلا أمان لهذا الرجل .. وسوف نسردها على حلقات مطولة ، وقال فيها ما يخص الرهبنة بعد الإسلام :
حملتني الكبرياء وعزة النفس عن التخلي عن المرأة التي ولعت بها عندما أيقنت من عاطفتها أنها ارتوت وتشبعت ثم ملّت وسئمت ، لم تعد الحياة إلى جانبها بدافع من العشور المتماثل أو التجاذب العاطفي أو الائتلاف الروحي بل تحولت إلى مشاركة فيها صورة إكراه ، فاقتضى الحال تحرير السائمة من أسبابها لترد إليها الحرية والاستقلال .
كل ما رأيت في مسرح الحياة أشياء تبعث على الاستياء والنفور من المحيط كله، ويبعث على التخلص من هذه الحياة الشقية، فهل أنتحر ؟ الانتحار نوع من الجنون، فهو فرار من المعركة تحت تأثير الجُبن ، أنا الآن أبحث عن طريقة أخرى أعتزل فيها الحياة بدلًا من الهروب عن طريق الانتحار
فكرت طويلًا تفكير المضطرب مزلزل الفكر والأعصاب فلم أهتد لوسيلة معقولة تحمل على السكون إليها في ارتياح ، تركت الخمر وجعلت أقتل الوقت بمطالعة الروايات لتشغل الوقائع الخيالية خيالي عن الأشجان مسببات التألم وانقباض الصدر ، فصادفت قصة عاطفية بطلها ملك لفرنسا وبطلتها عذراء يحبها الملك وتبادله هذه العاطفة في تعقل حداها إلى كبت شعورها وكتم سرها حتى عن العاشق ، ولم تطق الاحتمال والبقاء بين الآدميين فاعتزلت المجتمع وفرت منه إلى الدير لأن أسوراه تحبس نظرها عن كل ما في الحياة ، والصلوات تلهيها عما في نفسها من اضطرابات . فاسترحت لفكرة اللجوء إلى الدير لاعتزال الحياة وما فيها من المنغصات ،وللاستقرار في قبر فسيح يدفن فيه الجسد مع بقاء الحياة .. لكن الترهب جائزة للرجل المسيحي وأنا لست مسيحيًا .. قلت لعقلي: أنا رجل بدون عقيدة وبدون دين لم تؤثر فيّا الوراثة لأنني لم أنشأ نشأة منظمة في حياة عائلية تكون أبناءها بالتربية وتكون سلوكهم بتأثير العادات والتقاليد ولم تعلمني المدرسة تعليمًا دينيًا يثبت في عقيدتي ويكون لي مبدأ ، كان عمل المدرسة إرغامي على حفظ سور من القرآن لا أفهم معاني عبارتها ، فكنت أحفظها عن ظهر قلب خوفًا من الضرب بالخيزران وهو العقاب الذي عرفناه في زمان الدراسة الابتدائية . واضطراب حياتي وجميع ظروفي على ظهر الأرض لم تسنح فيها فرصة تحدوني إلى الاضطلاع على كتاب ديني ، بل جميع ظروف الحياة الاجتماعية ومشاغلها تبعد الإنسان المتحضر عن تذكر الدين أو حصر تصرفاته في حدود الشريعة إلا عند عقد الزواج أو تأدية شهادة أمام المحكمة وأنا كسائر الخلق في هذا المجتمع لم يطرأ على الباعث الذي يرغمني على التفكير في العقيدة والدين . وقلت : اليهودي والمسيحي والمسلم يعبدون الإله الخالق ، ويعترفون بأنه الإله الخالق المفرد، وهو الإله الذي يعبده الرهبان في أي دير ألتجئ إليه ، وما دمت عاجزًا عن الجزم بأي أنواع العبادة هي الأدنى للحقيقة ، فلماذا لا أجعل هذا العجز سببًا منطقيًا أستند عليه في عبادة الله الخالق “وحده” الشائع في عقائد اليهود والمسيحيين معًا .
مرحلة ما قبل القرار
يكمل الزيبق حافظ نجيب قائلًأ : سألت نفسي .. لماذا لا يلجأ الإنسان إلى الدير ليحيا فيه حياة الرهبان؟ فكان الجواب : يفر الإنسان لسبب من عدة أسباب منها: الفقر والعجز عن العمل ، أو عدم احتمال منغصات الحياة ، أو الطمع في الوصول لمنصب ديني كبير ، أو الرغبة في العبادة والانصراف لله ، ويكاد السبب الأخير يكون معدومًا بشكل مطلق، وقلت: المفروض أن الدير مكان معزول عن العالم ييسر للراهب تأدية واجباته الدينية في هدوء وللعبادة للتكفير عن خطاياه لاكتساب رضا الله فالذين وراء أسوار الدين ليسوا من القديسين الأطهار ولا من الصديقين الإبرار إنما هو من الآدميين مثلنا يتعبدون للاستغفار من خطاياهم ، فأنا مأي واحد منهم أريد العزلة في الدير لأحبس حريتي فلا أخطئ بين الجماعة بسبب ظروف الحياة وأمنع نفسي من شرب الخمر ومن التلهي ومن الإسراف في التبذل ومن تصرفات كثيرة يقولون عنها إنها تنفر من الأخلاق الحسنة والفضيلة .
مرحلة القرار
وعند مرحلة التأكد من الميول للرهبنة ، يقول الزيبق حافظ نجيب : أقنعتني نتيجة البحث بجواز القصد إلى الدير ، وبدون أن يكون في عملي ضرر ينال أي إنسان أو أي مكان أي دين يفرض له الاحترام ، ونشطني لتنفيذه هذه الرغبة خاطر جديد خبيث أوحى إليّ بأن دخول الدير مغامرة من نوع جديد .. فابتسمت لوسوسة الشيطان وعقدت العزم على دخول الدير والترهب وعرضت الأمر على بعض زملائي الذين يعملون بالسياسة فحبذوا رأيي ، وقال أحدهم : يجوز أن يكون الدير وسيلة لذهابك إلى الحبشة في منصب مطران الحبشة ، وذلك البلد لا يزال مستقلًاً ، ومنصب مطران هناك منصب عظيم جدًا ، واحترام الأحباش للجالس على كرسي المطرانية أعظم من إجلالهم للجالس على العرش ، وقال الثاني وهو على فراش مرضه الأخير : وفي مقدور المطران المثقف ثقافة عالية أن ينشئ هناك جيشًا يعلّم ضباطه في النمسا أو ألمانيا ، فيصير في مقدوره اغتصاب السودان وإنقاذ مصر من المحتلين ، وقال الأول : هذا سر خطير فاحتفظ به لنفسك، ولا تيسر لأي صديق معرفته ، فودعت الرجلين وانصرفت لأقصد إلى الدير ولكن أي دير ؟ فلا بد من الاهتداء إلى المكان ، وإلى الوسائل التي تمكن من دخول الدير ، لابد من الاسترشاد برأي خبير ، من هذا الإنسان الذي ألجأ إليه وأضمن كتمانه لهذا السر الخطير ؟
كلمة السر في رهبنة الزيبق
يكمل الزيبق رحلة بحثه عن صديق يكتم هذا السر الجلل ويقول : تذكرت أن فريد فهمي كان زميلًا لي في المدرسة الحربية المصرية وأن من صفاته الوداعة والحلم وحسن الخلق والهدوء التام ، كان بين الطلبة زملائه شبحًا يتحرك ويسمع ويطيع في صمت ، وكان الشاب يأنس إليّ في أوقات الفراغ الطويلة فنتحدث ونتناقش ونتسامر وعرفت منه حينذاك أن أباه قسيس كنيسة حارة السقايين بالقرب من ميدان عابدين وعلمت بعد أعوام أن هذ الشاب ترك المدرسة الحربية وتزوج بسبب وفاة والده واختياره ليحل مكانه قسيسًا لتلك الكنسية ، فلم أتردد في قصده.
لم أخطئ الظن لأن (القس بطرس) وهو الاسم الديني له ، لم ينسى صداقتنا ولم تتبدل ثقته فيّ بعد المغامرات التي صورتها الدعايا أنها نوع من الإجرام الاجتماعي .. قابلني مقابلة حسنة، ومكثنا طول الليل من الخلوة ومن التحدث عن رغبتي في الدخول للدير واعتزال العالم ، ووضع نهاية للحياة المضطربة التي بداخلي ، والتي دفعتني مرغمًا لهذه المغامرة المجنونة ..
لم تكن للقمص بطرس معرفة وافية بالأديرة لأنه قسيس علماني لا راهب خريج من الدير ، وكل ما وصلت إليه من معلومات أن في برية شيهات ثلاثة أديار متباعدة عن بعضها : دير أبو مقار ، ودير الأنبا بشوي ، ودير السريان ، وأكد لي أن الوصول إليها يكون من كفر داوود ، واكتفى بهذه المعلومة، وعقدت العزم على أن أذهب صباح غد لكفر داوود
أول ليالي الزيبق في الدير
يصف حافظ نجيب رحلته للدير : سافرت بالقطار إلى كفر داوود فوصلت إليها في نهاية النهار ، وبحثت عن جمل أستأجره لأقطع به الصحراء لأصل إلى الدير وهداني البحث إلى جمل وصاحبه فقضيت الليل في بيته لتبدأ من الفجر.. وعندما وصلنا للدير وجدت بالقرب من الباب حبل مرسل من أعلى السور يكاد يلمس الأرض فجذبه الجمّال عدة مرات فسمعت جرسًا يدق في جوف الدير، وانتظرنا برهة حتى وجدنا رأسًا يطل من كوة صغيرة في أعلى السور ويسأل الراهب عما يرى فقال البواب: إنسانًا في ثوب أفندي .. واستقبلني الراهب بالترحيب ودعوني للجلوس معه في الطابق الأول وكانت الحفاوة شديدة – وهي عادة الرهبان- وأغدقوا على بالطعام ، واجتمع فريق الرهبان حولي بعد العشاء للسمر ولاستطلاع السبب في هذه الزيارة الغريبة .. ولم أكتم عنهم الحقيقة الكاملة فاستوعبوا أسبابي ، ولم يشعروني بالغربة ولا الغرابة ، وعرفت أن لكل واحد منهم أسباب في النزوح للدير وأن الاختلاف فقط في أسباب كلُ منهم في الاختباء وراء أسوار الأديرة .. وجاءت لحظة الحسم وأعطاني القمص عبد الملاك غرفة كمثيلتها تحت سور الدير ، وكونت لنفسي سريرًا من الخشب على قاعدتين ، وهيأت من الخشب منضدة جعلتها للمطالعة ، وزدت هذا المتاع إناء فاخر للماء فاكتملت لي حاجات المعيشة في هذه الغرفة ، واندمجت في نظام الدير الذي حتّم علي ّ تأدية الواجبات مع الجماعة ، وهي الصلاة بعد العصر جماعة في فناء الدير ، والصلاة في الكنيسة قبيل فجر ليلة الأحد ، ثم قضاء الأعمال اليومية الضرورية للمعيشة ”
وهنا عاش الزيبق نجيب حافظ وقضى رحلة طويلة من المغامرة في الدير كمسلم ، وفي القادم سنحكي قصة وصولة إلى الترشح للكرسي الديني الكبير في الحبشة
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال