رئيسة التحرير
رشا الشامي
همتك نعدل الكفة
201   مشاهدة  

“إخواتي”.. جثة على السفرة ودموية عذبة وصوت شيرين في الخلفية

إخواتي


أراد المؤلف “مهاب طارق” هذا العام استكمال ما بدأه العام الماضي بمسلسله “لحظة غضب” من خلال مسلسل “إخواتي”، بالتعاون مع المخرج “محمد شاكر خضير“، هذه المرة ليس استكمالًا للأحداث، بل استكمالًا للأسلوب الفني، حيث كانت يمنى/ صبا مبارك في العام الماضي متورطة في جثة زوجها/ محمد فراج، ساعية إلى التخلص منها، ومسار الحدث يورطها في كل مرة داخل موقف أو مع شخص جديد تعيد فيه اكتشاف ذاتها، بعيدًا تمامًا عن مشاهد النواح أو الخوف من السجن، أو حتى البكاء ولو للحظة واحدة على فعلتها أو تورطها في الجثة.

وعلى هذا المنوال، تأسس أيضًا مسلسل “إخواتي” هذا العام، حيث التورط في جثة ربيع/ أحمد حاتم، من قِبَل الزوجة نجلاء/ جيهان الشامشرجي، بالتعاون مع باقي أفراد أسرتها، شقيقاتها اللاتي قدّمن أدوارهن “كندة علوش، روبي، نيللي كريم”، بجانب أزواج الشقيقات “علي صبحي، حاتم صلاح”، ثم انضم إليهم “محمد ممدوح”.

في البداية، اتبع المسلسل تسكين الشخصيات الأساسية داخل مهن لافتة، وجميعها تقوم على الحِرف والصناعات، فمثلما كانت يمنى تعمل “طباخة”، سارت الشقيقات الثلاث، باستثناء نجلاء، يعملن بين الخياطة، الكوافير، وسائقة أوبر، بما يتسق مع المستوى الاجتماعي المتوسط. لكن الأهم هو تقديم أجواء غرائبية نابعة من العادية المفرطة؛ فهذه المهن موجودة وليست نادرة، بينما اجتماعها هو المؤسس الأول للغرائبية المقصودة، حيث تتزوج الخياطة من رجل يعمل في “التنقيب عن الآثار”، بينما يمتهن زوج أختها “الدفن” أو ما يُعرف بـ”التُربي”، مما يخلق صعودًا وهبوطًا داخل مستويات وأفكار متباينة، قد تتسق مع بعضها أو تتناقض، لكنها في النهاية تخدم الأجواء الأساسية للعمل، وهي حالة “الجدل” أو “الديالكتيك الدرامي”.

إعادة صياغة القوالب

مسلسل إخواتي
مسلسل إخواتي

يعتمد أسلوب الديالكتيك في الدراما على الجدل والتصادم بين الأفكار للوصول إلى استنتاجات جديدة عبر التناقضات، مما يبرز التوترات الفكرية والاجتماعية والنفسية داخل الشخصيات والأحداث. وبعيدًا عن الخوض في نشأة وتطور الديالكتيك منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو وحتى ماركس، فإن جوهره الأساسي يقوم على الصراع، شأنه شأن الحبكة الدرامية التقليدية. لكن هذا الصراع لا يتجسد في شخصيات متضادة، ولا في ثوابت متقابلة مثل الخير والشر، بل يتمثل في أطروحة ونقيضها، حيث تُطرح المفاهيم ونقيضها بشكل متزامن، ليكون المفهوم المركزي الذي يرتكز عليه المسلسل حتى الآن هو “الموت”.

يقدم العمل مفهوم “الموت”، لكنه في الوقت ذاته ينسف التصورات التقليدية المرتبطة به من خلال أفعال شخصياته. فلا مكان للحزن أو النواح أو استعادة ذكريات الفقيد، بل يُستبدل ذلك بسلوكيات صادمة تتراوح بين اللامبالاة والضحك، حيث تُحفظ الجثة في ثلاجة الطعام، بل ويُؤكل من الطعام بجانبها، وتُوضع الجثة على المنضدة قبل أن يحل الطعام محلها، في تعامل مناقض تمامًا للسياقات الدرامية المعتادة، بل وربما للمفهوم الواقعي للموت ذاته. هذه المفارقة المستمرة تخلق حالة جدلية لا نهائية، تسهم في تحقيق الديالكتيك الدرامي عبر الثنائية الأولى: “مفهوم الموت وطريقة التعامل معه”.

YouTube player

وذلك وفقًا للأفعال المكتوبة لتأديتها من قِبَل الشخصيات، ولكن في مقابل ذلك، أسست الصورة أيضًا لهذا التناقض، حيثُ كادر واحد يجمع الجثة في أسفل الثلاجة ومن فوقها الطعام، وكادر آخر يجمع الشقيقات في ملابس سوداء يضعن مساحيق التجميل أمام المرآة، لتشترك الصورة مع الحدث في الأسلوب ذاته. ومن ثم يلحقهما شريط الصوت ليصدر موسيقى غير حزينة على الإطلاق داخل لوكيشن المقابر، بل هي نغمات تجمع بين الترقب والفرح، تصاحب مرةً ثانيةً مشهدًا في الفضاء ذاته “المقابر”، حيث الشقيقات بالرداء الأسود يضحكن بسخرية ولا مبالاة.

وفي مقابل هذه النغمات، التي تحقق نشازًا مقصودًا بين الحدث والحالة المراد تأكيدها، يتخلل شريط الصوت أغنيات معروفة لم تُؤلف خصيصًا للعمل، مثل “كلام عينيه” لشيرين عبد الوهاب. وهذا ما تم اتباعه أيضًا العام الماضي داخل شريط صوت مسلسل “لحظة غضب”، حيث تم استخدام أغنيات “دنيا وائل” على مدار الحلقات بأكملها. أولًا، للاقتحام المباشر وزيادة الحس الغرائبي دون سابق إنذار، ولكن الأهم هو استخدام أغنيات يعرفها المشاهد جيدًا ليشعر بالتورط – ولو لوقت قصير – داخل الحدث، على غرار ما اتبعه بريخت في دراماته، بصفته أحد أهم مستخدمي هذا الأسلوب داخل مسرحه الملحمي، بهدف إثارة وعي وانتباه المتلقي بدلًا من إشراكه في الحدث عاطفيًا. أي كسرٌ للحائط الرابع، ولكن ليس عن طريق الصورة، بل عن طريق شريط الصوت، وذلك عبر اختيار نغمات مألوفة يستشعر الجمهور من خلالها أنه جزء من الحدث، ليس عبر التعاطف أو استدرار العطف، بل عبر الجدل، وأحيانًا النفور، وفقًا لعدم اعتياده على رؤية المتناقضات مجتمعةً بهذه الصورة في مشهد واحد.

فهدف هذا الأسلوب بالأساس لم يقم على التعاطف أو التوحد مع الحدث، بل على التفكير فيه، أو إعادة صياغة المفاهيم من جديد، مثل مفهوم الموت، الذي يتم تلقيه بشكل غير واعٍ وفقًا لكثير من المدخلات التي سبق أن استقبلها المُشاهد. ومن هنا، يطرح العمل بأسلوبه طرقًا أخرى لاستقبال هذا المفهوم، ولكن ليس على سبيل التلقين بأن هذا هو الأسلوب الأجدر أو الأفضل، بل يمكنك رفضه تمامًا إذا أردت. لكن في جميع الأحوال، هو أسلوب يستهدف إعادة صياغتك للمفاهيم والتفكير فيها، بل يستهدف أحيانًا – وعن عمد – نفورك منها، لأن ذلك سيحقق الجدل المطروح أيضًا.

تشويه الجمال وتجميل القبح

مسلسل إخواتي
مسلسل إخواتي

ومن النفور، نتطرق إلى مفهوم درامي آخر وهو “الجروتسك”، الذي يتسق مع الديالكتيك في عرض المتناقضات وجمعها، لكنه بصورة أوضح يؤكد على عدم اتساقه الكلي مع الواقع، بل هو أسلوب قادر على الجمع بين المأساة والكوميديا في آنٍ واحد، بل وفي كادر واحد، لإثارة السخرية من الواقع الذي يتغنى به كثيرون. بل إنه يستهدف التشويه، تشويه الجمال وتجميل القبح، وهما من أهم أهدافه، وذلك لخدمة تفتيت المفاهيم وإعادة النظر فيها من جديد. ومن هنا، تكون الأمثلة السابقة خير دليل، لكن تأتي أيضًا التفاصيل البسيطة داخل العمل لتعطي ذلك المذاق.

مثال على ذلك: قبح نزول الدم من يد مدير سهى في العمل أثناء وضع يده تحت ماكينة الخياطة، بالتزامن مع علو شريط الصوت بأغنيات شيرين عبد الوهاب. شتان بين الصوت والصورة، لتحقيق الجدلية، بل ووضع الصوت والصورة داخل هذا المشهد كأطراف ثنائية متناقضة (الصورة/الصوت). فالدماء لم تظهر مع الجثث، بل ظهرت مع الأحياء، ومعها شريط صوت عذب، يرافقه لامبالاة حقيقية في ممارسة أفعال العنف، بل واعتيادها كأنها أمر طبيعي. بجانب عذوبة محببة تجعلك تنصدم، وتستمتع، وتشمئز في لحظة واحدة، وفقًا لتلك “الدموية العذبة” التي تهدف هي الأخرى إلى تفكيك مفاهيم القسوة والدموية والانتقام.

وإلى جانب ذلك، هناك قصدية واضحة في تجميل القبح، مثل نظافة جثة ربيع، بل وارتداؤه بدلة نظيفة ومهندمة للمرة الأولى، مقابل ملابسه التي ظهرت في الحلقة الأولى. كما لم يكن هناك دم يحيط بجثته؛ فهي جثة، لكنها تبدو في هيئة جميلة، غير ملطخة بالدماء – فالدماء حاضرة في أجواء أخرى غير مسارها المعتاد – ولم تحط بها أي أجواء جنائزية. وحتى قاتله غير معلوم حتى الآن.

الأمر ذاته ينطبق على تصوير جثة عابدين/محمد ممدوح؛ فهو جثة لكنها لم تكن غارقة في دم أو حتى ملقاة على الأرض، بل تنام في فضاء يثير الضحك، بين ورود وقلوب حمراء، وبيجامة بيضاء مرصعة بالورود. كما أن هناك هدفًا لإثارة الاشمئزاز من بعض الأفعال، مثل تكرار جمع متناقضين (الجثة/الطعام)، سواء في الثلاجة أو على المنضدة، أو حتى في طلب الأزواج للعلاقة الحميمة أثناء التورط في إخفاء الجثة. كل ذلك لتحقيق التفكيك ذاته للمفاهيم، وتشويه القوالب المحفوظة، لجعل العالم الدرامي غير متزن وفقًا للكتالوج المعتاد.

إقرأ أيضا
إخواتي

التمثيل كجثة

YouTube player

موافقة ظهور أحمد حاتم بدور جثة، تتسق أيضًا مع المفهوم الجروتسكي، حيث كعادة الأدوار التمثيلية الشخصية تقدم أداء تمثيلي، حتى وإن كانت متوفية، ففي الأغلب لابد من وجود فلاش باك لها، أو إبداء أداء تمثيلي حتى أثناء الموت مثل فيلم “جنة الشياطين” لأسامة فوزي، ولكن الظهور كجثة فقط، دون أداء هو كسر في ذاته لنمطية الموافقة على الأدوار من جهة، ولكن الهدف الأهم هو “التحول” حيث من بين أهداف الجروتسك، هو تواجد عناصر فانتازيا، تجنح إلى تحويل العوالم والشخصيات، وبالتالي تحويل ممثل بطل لجثة دون أداء، هو هدف أساسي، وتحويل جثة لبطل من أبطال العمل هو هدف آخر، لخدمة كل ما سبق من أفكار.

لماذا اتبع صناع العمل هذا الأسلوب؟

YouTube player

الجروتسك يستخدم بالأساس لكشف تناقضات العالم المبالغ فيها، وعناصر التشويه تستخدم لتضع المُشاهد في مواجهة فعالة مع المفاهيم الواقعية، لإعادة ترتيب وصياغة العالم من حوله، وكذلك الديالكتيك الذي ينبش داخل المفهوم الواحد لتفكيكه لثنائية تحمل أطرافًا متناقضة، لخدمة التفكير وإعادة الصياغة، واجتماع الأثنين معًا لم يستهدف في النهاية تقديم حلول، أو استخلاص بكاء واضح، أو حتى ضحك واضح، بل هو قلب المفاهيم والأشياء، التي حاول العمل تقديمها حتى على صعيد مفهوم “التمثيل”، وهذا الأسلوب ربما يكون محبب للبعض، وربما ينفر منه آخرون، ولكن حتى النفور منه هو جزء من أهداف العمل في أصوله، سواء أكان مقصودًا أو لا، ولكن تبقى حالة العمل جدلية غير منتظر منها السير على نحو قالب محفوظ.

وبالتأكيد هي خطوة جريئة تحسب لصناع العمل، حيث كسر النمطية البصرية والنفسية وحتى مساحات الأدوار والأداء أمر غير معتاد بخاصة داخل السباق الرمضاني، ولكن مثلما يحاول العمل خلق حالته الخاصة، فهو يحاول أيضًا خلف تحولات أوسع في وعي الصناع والجمهور على حد سواء، إذ دفعة المتلقي لمواجهة القوالب من زوايا غير معتادة يولد صدمات على مستوى الدراما وخارجها، لترك أثر مستدام، وذلك لوجود التساؤل والجدل داخل السياق، وهذا في ذاته أمر مثير للاهتمام. والتروي في الحكم على العمل.

الكاتب






ما هو انطباعك؟
أحببته
2
أحزنني
0
أعجبني
1
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
1


Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان