إطلالة فاخرة على عالم منهار
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
انهار العالم الذي أعرفه، لست وحدي بالطبع العالم الذي شب جيلي بأكمله على وجوده انهار تمامًا، وكلما انهارت قطعة أتذكر صوت معلم مادة الدراسات الاجتماعية وهو يشرح لنا خريطة الوطن العربي والعالم، بينما أرى أمامي مقاطع فيديو لهواه رص الدومينو وأوراق الكوتشينة، ثم يسقطونها بالتتابع، هكذا عالمي الذي عرفته.
المثير للسخرية، أنه كانت العديد من الدلالات التي تشير أن هذا الجيل سيشهد قيام عالم جديد، الجيل الذي افتتح الثمانينات بحرب الخليج الأولى، وحرب أفغانستان، وعاش صباه يتابع نشرات الأخبار وهي تعرض صور وأصوات المعاول وهي تهدم جدار برلين، وتنهي الحرب الباردة، قبل أن يعاصر موجة تطرف ديني عنيفة، تبعت عودة من انتصروا على السوفييت في أفغانستان.
لم يكن جيلي ابن مشروع قومي عروبي، أو مشروع اقتصادي انفتاحي، جيلي جاء على أنقاض المشروعين، ليكون مطلوبًا منه مواكبة كل جديد في العالم، تقنيات وأفكار ووسائل تواصل واتصال وحتى الألعاب، كل شيء كان يركض من حولنا بعنف، 30 عامًا من الركض ولكن ببساطة، لم نكن نعلم أننا نسابق الزمن لنرى كل شي نألفه ينهار.
تربينا أن الدول العربية 22 دولة، اليوم صاروا 23 دولة، تربينا على وجه راسخة في نشرات الأخبار تتابع اختفائها واحدًا تلو الأخر بالموت القدري تارة كحافظ الأسد وياسر عرفات، بالإعدام على يد الغزاة تارة كصدام حسين، وبالحركات الاحتجاجية مرات عدة، حتى الدول التي لم تصبها رياح الاحتجاجات أو تساقط الرؤساء تغيرت، السعودية البحرين الإمارات الكويت المغرب، الكل تغير بلا استثناء.
الأزمة أن الرؤساء لم تتغير بل الأنظمة أيضًا، والأوضاع الاقتصادية والسياسية التحالفات، كل ما نشأنا على كونه ثابت انهار وتزعزع وكأنما قدرنا أن ننظر لخريطة الوطن العربي التي درسناها قديمًا وننظر لها الآن فلا نرى شيء مما ألفناه.
غابت السلعوة التي تدق أبواب البيوت، فظهرت الحركات التكفيرية التي كان عدد لا بأس به من أبناء جيلي وقودًا لها، ظهرت لتدق أبواب عقول تاهت في خضم تسارع عنيف في التطور والأحداث، لتلتهما أفكار سوداء، ولم يعد الخطر مختبئًا في جبال أفغانستان البعيدة، بل عشنا معه لسنوات بيننا، وهو الآن مازال رابض على مقربة.
كنا ونحن صغار نحسد من هم أكبر منا لأنهم عايشوا أجواء أكتوبر المجيدة والانتصار، كنا صغار وبالطبع سذج لم نعرف عن الحرب سوى الانتصار أو الهزيمة التي سبقتها، لم نعرف توتر الأوضاع الاقتصادية أو معاناة اختفاء السلع والسوق السوداء، اليوم نعيش الحرب وتأثيراتها، ونحمد الله على أننا لسنا في قتال عسكري مباشر في أي حرب من المحيطة بنا.
في أوقات كثيرة اسأل هل كانت رياح الاحتجاجات التي عصفت بالعالم العربي منذ 2010 والتي هبت من تونس خطأ؟ ونحن من يدفع ثمنه، أم كنا مجرد دفعة خفيفة لعالم رخوي، لم يحتمل دفعة، أم كانت دفعتنا أقوى مما يجب؟ في رأيي أن الأنسان الذي لا يعيد حساباته كل فترة وأخرى هو شخص مجمد، يحتاج أن يخرج من الفريزر لتجعله سخونة الأحداث “يفك” ويعود لسيرته الطبيعية.
قديمًا كان هناك مسلسل اسمه رجل في زمن العولمة، كنا نسمع هذا المصطلح مقرونًا بان العالم أصبح قرية صغيرة، وان ما سيحدث في بلاد الواق الواق سيؤثر على المواطن البسيط في أقصى نجوع مصر، وكنت أسخر من الأمر، اليوم هذا المصطلح أصبح هو حياتنا، تأمل شكل حياة أي واحد منا اليوم، نعمل حتى مغيب الشمس جميعًا، لا نقضي وقتًا مع عوائلنا، نفكر في الدخل والإنفاق ونتابع حركات العملات والبورصة
هل لك أن تتخيل أن مواطنًا في اقصى نجع في صعيد مصر، ضاعف ميزانية إفطاره المكون من الفول والطعمية أكثر من مرة بسبب أن بوتين رئيس روسيا شن حربًا على أوكرانيا! فقط لأنها كان لها تأثير في أسعار زيوت الطعام والحبوب وعمليات الشحن، وغيرها من أشياء لم نكن نلقي لها بالًا سابقًا، أهذه هي العولمة التي كانوا يحذرونا منها ونحن صغار، هل هذا الخطر الذي كتب عنه مئات الكتب هو ما نحياه اليوم.
يرن صوت معلم الدراسات في أذني وتتهاوي قطع الدومينو أمام عيني، العراق واليمن وليبيا وسوريا، كأنما تتمزق تلك الخارطة التي ألفتها وتمزق معها ما تبقى من ذكريات عالم نشئت في وجوده، وأنا حتى لا أملك القدرة على إيقاف هذا المقطع، أو الخروج منه، فقد أشاهد وأودع مع ما أشاهد كل ما نشأنا عليه.
الكاتب
-
عمرو شاهين
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال