الآن تسخر من عبد الناصر .. غدًا تسخر من نفسك .. عن التريند الذي لا ينتهي
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
هو الآن سعيد جدًا .. يجلس في مكتبه مرتاح البال .. مرتخي العضلات .. لا مشكلة من بعض الضحكات التي تخرج من بين أسنانه مع دخان السيجار الفاخر الذي يدل انسيابية خيط دخانه على البهجة التي يشعر بها .. يقول في نفسه .. أكثر من ستين عامًا ولم أجد مثل تلك الفرصة .. مئات المليارات التي أنفقناها حتى نحطم هؤلاء ولم نستطيع .. طائرات ، ودبابات ، وحصار ، وأرواح مهدرة من هنا وهناك .. ملايين الخطط التي داسوها بالأقدام ، دمروها بالوعي ، قاتلوها بأرواحهم ،وأقلامهم ، وعنادهم الذي استعصى علينا جميعًا حاملين على أعناقهم ذلك الرجل الصعيدي صاحب الأنف النافرة، الذي يقبل المساومات، ذلك الرجل الواضح، الفلاح الذي يشبههم ، الشقيان كأغلبهم ، الأسمر صاحب الوجه الخشن ككل آباءهم .. ذلك الذي حاول
لكن الآن .. وبدون دولار واحد .. ها هم يدهسونه .. فقط أحد الكوميكات الساخرة التي بدورنا نشعلها إن انطفئت .. هم الآن لا يقرأون .. لا يعرفون كيف نجعلهم يمسكون الخنجر بأيديهم ويعملوه في صدورهم .. يلفون حبل المشنقة حول رقبتهم بامتياز .. أخيرًا جاء الجيل الذي نراهن عليه .. هم يصدقون الفيس بوك .. ونحن نملك الفيس بوك .. بسيطة !
تعجب الكُّتّاب الأمريكان الذين رصدوا لحظة سقوط بغداد عن كثب .. حتى قال أحدهم : في اللحظة التي وقع فيها تمثال صدام حسين ، كان الواقفين غير مدركين بالضبط ما قيمة تلك اللحظة بالنسبة لهم .. ومع الأصوات المرتفعة هلل الواقفين بضرورة تكسير التمثال، هم أيضًا غير مدركين لماذا يريدون تكسيره ، لكنها قوة الصوت العالي ، وقطار الوهم الجارف حينما يدهس المنطق والوطنية والمصلحة المباشرة .. حتى إن أحد الواقفين مسك نعله ونسله على وجه التمثال ، والعجيبة أن بعد خالف الواقفين إرادتهم بأنفسهم .. ضحك الجميع ، ضحكوا ولم يكونوا يعرفوا لماذا يضحكون !
لم يعد يخفى على أحد أن السخرية أصبحت أحد أسلحة التصفية، ليس فقط على المستويات السياسية، بل فاقت الحدود ونخرت في عمق المجتمع ، لم يعد هناك اسلوبًا أسهل من أن يتم تفريغ مضامين المواضيع ، ومبادئها بغير استخدام السخرية .. في كل شئ ، بدأت بكرة القدم ، ثم العلاقات الاجتماعية .. وصلت للأديان .. ثم دخلت الكوميكات في التريقة والسخرية والأموات ، سخروا حتى من الموت !
لكن هناك سؤلًا جوهريًا يطرح نفسه .. بما إن لكل كوميك نهاية ، وفترة من فترات الذروة ثم الانخفاض ثم الاختفاء .. لماذا تستمر حملة السخرية من جمال عبد الناصر ؟ إذا كان كما يقولون قد انهزم في كل معاركه ، فهناك قادة كثيرين قد انهزموا في معاركهم .. لكن لماذا جمال عبد الناصر بالتحديد ؟
الإجابة بالتحديد .. تكمن في نقطتين .. أولهما تسطيح المسألة ، وإيهام المراهقين من الشباب والمراهقين بأنهم قد وصلوا لذروة الفهم لأنهم يعرفون معلومة أو اثنين عن عصر جمال عبد الناصر .. تسأل الواحد منهم : ما هو اعتراضك على جمال عبد الناصر؟ يقول لك في ميكانيكية بليغة : لقد خسر كل معاركه .. لماذا ذهب إلى اليمن !! .. ثم تسأله هل تعرف ما سبب ذهابه إلى اليمن ؟ ما سبب دعمه لحركات التحرر في إفريقيا ؟ .. ماذا كانت خطته لحماية الوطن العربي ؟ .. كيف تمت خيانته ، وكيف كان طموحه أن يرفع شخص الشاب المصري ابن الطبقة الفقيرة إلى أعالي السماء ؟ .. هل تعرف دور الصناعة الوطنية في عهد جمال ؟ .. هل تعرف كيف انتزع القناة من أنياب المستعمر حتى تأكل انت من خيرها؟ .. أسئلة كثيرة لا يجيبونك عنها غير بمزيد من الكوميكات .. ومحو لصوت العقل والكرامة !
النقطة الثانية والأهم .. أن المقصود من السخرية ليس جمال عبد الناصر في شخصه بقدر السخرية من الإرادة المصرية ، والروح العربية ، وصناعة شخص منبطح لا يجرؤ على الوقوف أمام أعدائه، صناعة شاب مصري يبرر الخيانات تحت فلسفات كثيرة ، صناعة رجل تائه لا يعرف من هو ولا من عدوه ولا من يريد له الخير ومن يريد له الشر .. صناعة شخص كل ما باله الطعام والشراب حتى إن استغنى عن كرامته ، وفقد شخصيته ، وترنّح بين الشعوب .. صناعة إنسان مصري يسير إلى الموت مبتسمًا ، مخمورًا بنشوى الضحك والسخرية حتى إذا ما قتله أحدهم ضحك مجددًا .
الرجل الذي يجلس سعيدًا في مكتبه .. يرى الشاب المصري يسخر من كرامته .. يسخر من عبد الناصر .. حتى يسخر من نفسه .. ولكنه الرجل الذي يجلس سعيدًا .. يبدو أنه لن يكون سعيدًا الفترة القادمة !
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال