الأعمال الخيرية التي قدمتها مصر في الحج زمان “وثائق خير أم الدنيا على بلاد الحرمين”
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تعددت إسهامات مصر في الحج زمان بأعمال خيرية وهبات للحرمين الشريفين، وكان اهتمام المؤرخين منحصرًا في المنشآت التي أسستها مصر، لكن هناك جوانب أخرى لميزانية مصر وأعمالها الخيرية لم تلقى التوثيق؛ وخلال هذا التقرير نستعرض تفاصيل الأعمال الخيرية التي قدمتها مصر في الحج زمان وتحديدًا طيلة 44 سنة (من العام 1880 إلى 1924)، من حيث نوعية الأعمال وميزانيتها.
إجمالي ميزانية الأعمال الخيرية التي قدمتها مصر في الحج زمان
وصل إجمالي ميزانية مصر في الحج زمان من العام 1880 حتى 1924 م إلى 2 مليون و454 ألف 752 جنيه، كانت ميزانية مصر السنوية في تلك الفترة تتراوح بين 41 ألف جنيه و 96 ألف جنيه، دون زيادةٍ أو نقصان.
ويلاحظ في الميزانية أن الظروف السياسية داخل مصر لم تؤثر في الميزانية، فمثلاً قبل سقوط مصر في الاحتلال البريطاني بعام واحد كانت ميزانية الحج 41 ألف 626 جنيه، ولما سقطت مصر في الاحتلال في يوليو سنة 1882 وكان موسم الحج في أكتوبر، لم تتأثر الميزانية بشكل كبير ففي سنة الاحتلال كانت ميزانية الحج 41 ألف 582 ج (أي نقصت الميزانية 44 جنيه فقط).
كذلك يلاحظ أنه رغم استنزاف موارد مصر في الحرب العالمية الأولى إلا أن الميزانية كانت مستقرة والتغيرات فيها طفيفة فطوال سنوات الحرب الأولى كانت الميزانية ثابتة في أول سنتين (1914 و1915) بـ 53 ألف و362 ج، وفي سنة الحرب الثالثة 1916 نقصت الميزانية 52 ج فصارت 53310 وفي السنة الرابعة 1917 زادت عن السنوات الثلاثة فصارت 53621 ج، وفي آخر سنة من الحرب (1918) ارتفعت الميزانية بشكل كبير لم تشهده من قبل أو بعد حيث وصلت إلى 96 ألف 621 ج.
التوزيع التفصيلي لميزانية مصر في الحج زمان خلال 44 سنة وجهات الإنفاق
هذه المبالغ الضخمة في زمنها كان يتم صرفها تحت بنود متفاوتة بين كل موسم حج وآخر، بعضها ظل ثابتًا وبعضها اختلف وتبدل، وإجمالي البنود التي تم تحديد الميزانية هي 29 بند، ولكل بند من تلك البنود تفاصيل شديدة التعقيد والعمق.
اقرأ أيضًا
“بعد 117 سنة” موقع الميزان يفتح ملف جريمة قتل وسرقة الحجاج المصريين سنة 1904 م
البنود الـ 29 التي كانت لها تلك الميزانية هي «كسوة الكعبة، المحمل، مرتبات العربان، مرتبات أشراف مكة والمدينة، مرتبات تكية مكة والمدينة، أموال فقراء مكة والمدينة، أموال قمح الصدقة، أجرة الجمال والسكة الحديد والبواخر، أجرة البرقيات، خيام المحمل، قناديل الحرمين، زيت القناديل، حصر القناديل، مصاريف الحجر الصحي، ثمن التعيينات لفقراء عربان القلاع، مرتبات عساكر عربان القلاع، مرتبات وذخائر بلاد الحجاز، مكافآت للعربان، ذخائر عسكرية، نفقات القلاع الحجازية، مؤونات الحمل، مرتبات الصرة، المسقى الخيري، ميزانية القسم العسكري، وقفة قراءة القرآن والبخاري، مرتبات القراء والقضاة، مرتبات الصدقة، المصاريف النثرية، المصاريف السرية».
على سبيل المثال كانت كسوة الكعبة المصرية من سنة 1880 وحتى 1924 م ميزانية مستقلة بذاتها تبدأ من 4 آلاف و 600 ج وتصل إلى 9 آلاف و 499 ج.
ولعل الاستغراب من قيمة المبلغ الضخم يطرح سؤالاً وهو ما هي تفاصيل الكسوة أصلاً حتى يتم صرف ذلك المبلغ الطائل لها ؟ وإجابة هذا السؤال تكشف تفاصيل الدقة التي كانت تتسم بها صناعة الكسوة المصرية.
مثلاً كانت ميزانية الكسوة المصرية للكعبة وحدها سنة 1890 م مبلغ 4600 جنيه و810 مليم، وتم توزيع ذلك المبلغ على 73 بند متعلقين بالكسوة، أي أن هناك 73 جهة لها مباشرة وغير مباشرة بتصنيع كسوة الكعبة وحدها، وهذا ما تبينه وثيقة مصاريف كسوة الكعبة التي لم تترك شيئًا ولا أحدًا بدايةً من الحرير وحتى أجرة حارس بواب مصلحة كسوة الكعبة في الخرنفش.
الأمر نفسه ينطبق على بند المحمل فمحمل كسوة الكعبة كان له ميزانية تبدأ من 1559 ج وتصل إلى 1737 ج ويتم صرفها على المرتبات والمكافآت والنفقات لموظفي المحمل وخدامه ومن شارك في حراسته، وفي سنة 1880 تم تزويد مبلغ 7370 ج كسعر لثمن المؤونات والنفقات لقافلة المحمل.
كانت مصر في الحج زمان تقدم أموالاً للمسجد الحرام والمسجد النبوي ومجالس القراءة الصوفية، وكانت المخصصات التي أوقفتها مصر خلال 40 سنة على المسجد الحرام والمسجد النبوي وصلت إلى 26 ألف و167 ج مخصصة لـ 6 أشياء هي «الشمع والقناديل، وزيت القناديل، وحُصُر، ونفقات متنوعة، ونفقات سرية»، ووصلت ميزانية مصر المتعلقة بشمع وقناديل المسجد الحرام والمسجد النبوي على مدار 40 سنة إلى 13 ألف و563 جنيه، أما مصاريف زيت القناديل فكانت 4 آلاف و904 جنيه، ومصاريف الحُصُر فكانت 1500 جنيه، أما النفقات الخيرية المتنوعة فكانت 5 آلاف جنيه، أما النفقات السرية فكانت 1200 جنيه.
تفاصيل الأعمال الخيرية المنسية التي قدمتها مصر في الحج زمان
هناك عدد كبير من الأعمال الخيرية المشهورة والمنسية التي قدمتها مصر في الحج زمان، فالمشهور هو التكية المصرية في مكة والتكية المصرية في المدينة، لكن داخل التكايا تفاصيل شديدة العمق والدقة، فضلاً عن أعمال الخير المنسية.
كان موسم الحج لا يخلو من الفرحة على الصعيد الرسمي والشعبي وكان من عناصر ميزانية 1901 م مبالغ لدانات المدافع الاحتفالية في أجواء الحج والتي تبدأ منذ منتصف شهر ذو القعدة وتصل إلى منتصف شهر المحرم، ويتم إطلاقها في كل موسم احتفالاً بكل فعالية.
يأتي المسقى الخيري المتحرك الملحق به سبيل للبر والإحسان، على رأس أعمال الخير المنسية التي قدمتها مصر في الحج زمان، وقد ظهر لأول مرة سنة 1904 م بهدف توفير الماء للحجاج في فترة القحط الذي تشهده مكة.
كانت ميزانية المسقى الخيري 200 جنيه (150 جنيه للمسقى + 50 جنيه سجاجيد للصلاة) وتم توزيعها على النحو الآتي «(17 جنيه و 700 مليم ثمن 60 قربة، و 1 جنيه و560 ثمن الحِبال، و2 جنيه و 12 مليم ثمن دلوين وكيزان وأحبال تيل، و 270 مليم ثمن قطع خيش جُنْفَاص، و400 مليم ثمن قمع نحاس 8 رطل، و 7 جنيه ثمن خيمتين، و 3 جنيه و400 مليم ثمن 3 أزيار جلد، و13 جنيه و 500 مليم مرتب 3 أشخاص في موسم الحج و9 جنيه مرتب رئيس المسقى، و 20 جنيه ثمن تذاكر حجز المياه، و 7 جنيه تأمينات، و 31 جنيه و500 مليم ثمن مرتبات خدم المسقى، و6 جنيه و900 مليم ثمن شراء ماء من جدة وعرفات ومنى، و400 مليم أجر حملة الأمتعة في جدة، و1 جنيه ثمن 10 جرابات لترميم القِرَب (جمع قربة) و 2 جنيه و 200 مليم مصاريف صحية في الحجر الطبي، 340 مليم ثمن 17 غرارة (وعاء من الخيش)».
أما ميزانية السجاجيد فكانت مصر تشتري 50 سجادة سنويًا ويتم إعطاءهم للموظفين في الحرم المكي وزمزم لتوزيعها على الحجاج الذين عجزوا عن شراء سجادة صلاة ليصلوا عليها في وقت الحر.
وفيما يتعلق بمصاريف السبيل الخيري الذي أسسته مصر سنة 1908 ملحقًا بالمسقى، فقد وصلت إلى 200 جنيه هي الأخرى وأبرز جهات الإنفاق كانت على النحو التالي «2 جنيه و725 مليم أجرة تصليح القِرَب، و 3 جنيه و 100 مليم أجرة بيت في مكة وأجرة نقل البقسماط، و 1 جنيه و300 مليم ثمن خيمة، و840 مليم ثمن شقدف (يشبه الهودج) و 1 جنيه و100 مليم أجرة عربات الأمتعة، و1 جنيه و590 جنيه نفقات متنوعة، و1 جنيه و15 مليم أجرة بيت في المدينة، و1 جنيه أجرة مساعد، و80 جنيه مرتب موظف المسقى في 4 أشهر، و8 جنيه مرتب موظف خدمة البقسماط، و146 جنيه أجرة الجمال».
تكية مصر في مكة والمدينة .. كواليس مجهولة عن عمل مؤسستين مشهورتين
كانت في بلاد الحرمين تكايا متعددة، لكن أبرزها تكية مكة التي أسسها محمد علي باشا وتكية المدينة التي أسسها إبراهيم باشا؛ والسبب في تميز تكية مصر المكية والمدنية هو تفاصيل عمل كل واحدةٍ منهما فبمجرد ذكر اسم تكية يترامى إلى الذهن أنه مبنى لعمل الخير وعمله عشوائي وغايته فقط رعاية الفقراء، لكن مع مصر كان كل شيء دقيقًا وراقيًا.
كانت تكية مكة تعمل على قدم وساق يوميًا طيلة السنة (1880 حتى 1924) وتقدم أموالاً وأطعمة بمبالغ طائلة للغاية، فمن حيث الأطعمة كانت تقدم للفقراء يوميًا من بداية السنة حتى شهر شعبان عدد 6 رطل من السمن و 46 رطل من الأرز الهندي أو المصري و 118 رطل من الدقيق و 4 رطل ملح.
وفي شهر رمضان كانت تقدم يوميًا 30 رطل سمن و 420 رطل أرز و320 رطل دقيق و 11 رطل ملح و50 رطل حمص، وفي كل خميس من رمضان كانت تقدم 15 رطل سمن و 140 رطل رز و 4 رطل ملح و 15 رطل حمص، ومن عيد الفطر حتى نهاية موسم الحج كانت تقدم يوميًا 9 رطل سمن و 156 رطل أرز و 320 رطل دقيق و 11 رطل ملح، إلى جانب 780 طن حطب سنويًا للأفران التي تجهز الطعام.
أما تكية المدينة المنورة في الفترة من 1880 وحتى 1924 أما تكية المدينة المنورة فكانت تتكفل بإطعام 800 فقير يوميًا وكانت تصرف في اليوم الواحد كميات كبيرة للولائم ولم تتأثر بأيام الغلاء.
فيوميًا كانت تقدم تكية المدينة للفقراء في أيام الغلاء ولائم تضم 8 رطل سمن و 100 رطل أرز و96 رطل دقيق و 40 رطل لحم، وفي الأيام العادية كانت تقدم 3 رطل سمن و 40 رطل أرز و 96 رطل دقيق و 40 رطل لحم، وسنويًا يتم صرف 336 طن حطب في أيام الغلاء و231 طن في الأيام العادية.
لم يتوقف عمل التكية في مكة والمدينة عند حد إطعام الفقراء، بل كان للتكيتين دور في إعطاء أموال لفقراء، إذ كانت ميزانية الأموال للتكية المصرية في مكة والمدينة خلال الفترة من 1880 وحتى 1924 م إجمالاً كانت تصل إلى 8 آلاف جنيه يُخْصَم منها 1000 ج لمرتبات الموظفين في التكية وبقية الميزانية (7 آلاف جنيه) يتم توزيعها على الإطعام والصدقات النقدية، أما الصدقات النقدية فكانت تترواح بين 1300 ج وتصل إلى 3600 ج، وهي ميزانية مستقلة عن ميزانية الإطعام ومرتبات الأشراف والعربان، حيث الميزانية وقفًا على فقراء مكة والمدينة وعلماءها.
الإطلاع على وثائق تكية مكة والمدينة يبدو منها ملاحظات متعددة، فقد كانت تهتم بالفقراء واليتامى وطلبة العلم، وتسمح بقيام بعض أهل الخير من أهل الحرمين بتخصيص أموال موقوفة على التكيتين، ليس ذلك فحسب بل أيضًا كانت تقوم التكية في مكة والمدينة بمساعدة الموظفين في المسجد الحرام والمدينة المنورة.
أمر آخر يتم في التكية المصرية بمكة والمدينة وهو أن عملها ليس مرتبطًا في رمضان والحج وإنما كانت هناك مناسبات دينية تحتفي بها التكيتين مثل بالمولد النبوي وعاشوراء ومواسم استثنائية مثل ذكرى وفاة محمد علي باشا وذكرى جلوس الملك فؤاد وفاروق على عرش مصر.
ولم ينحصر عمل التكية في الإطعام والصدقات بل أيضًا كان لها دور صحي في مواسم الحج، إذ كان يسكن فيها طبيب وصيدلي، ويؤكد ذلك تفصيل المرتبات للموظفين بها فقد كان للتكية ناظر تحت معاون وتحت المعاون كُتَّاب يقومون بخدمة الفقراء.
ومن مشتملات كل تكية طاحونة قمح يساهم في دورانها 4 بغال، وخلف الطاحونة مطبخ بـ 8 أروقة، وخلف المطبخ مخبز من بابين ومخزن، ثم محال الإقامة للموظفين.
من الوثائق المالية عن خيرات مصر في الحج زمان على بلاد الحرمين
تشتمل ميزانية الحج المصري على أشياء متعددة وكل تفصيلة من الميزانية تشير إلى نَسَق الحج المصري وتفاصيله، ويمكن إظهار ذلك من خلال دراسة ميزانية الحج عام 1899 م التي وصلت إلى 45 ألف 912 جنيه.
ومن ضمن ما تخصصه الميزانية المصرية، بند الصرة الشريفة الإرسالية التي كان يتم إرسالها لأهالي الحرمين الشريفين وبها أيضًا مرتبات العربان والأشراف والمحمل.
وكانت الصرة المصرية أيضًا تحمل أمانات يقوم المصريين أو أهل الحجاز المقيمين داخل مصر بإيداعها في الصُرَّة لتوصيلها إلى ذويهم وأصدقاءهم.
وخصصت مصر ميزانية للمأكولات في محجر الطور وكانت مساحته 4 كيلو مربع مربعة ويحده من الغرب خليج السويس، وقد تم تأسيسه سنة 1858 م وبدأ تطوره عام 1893 م.
كانت مصر تخصص مبالغ كثيرة لمحمل كسوة الكعبة وتأمينه وهو عبارة عن إطار مربع من الخشب هرمي القمة مغطى بستار من الديباج الأحمر أو الأخضر، وله 4 قمم من الفضة المطلية بالذهب في الزوايا الأربع، ويوضع داخل المحمل مصحفان صغيران داخل صندوقين من الفضة المذهبة معلقين في القمة إضافة إلى الكسوة الشريفة، ويوضع المحمل على جمل ضخم.
كان للعربان أيضًا مرتبات مخصصة في الميزانية المصرية بهدف عدم تعرضهم لبعثة الحج المصرية وقد تم تخصيص مبلغ 1588 ج و 40 مليم لعربان القلاع الحجازية في القصاصين والعمران وقبائل الشقيرات واللحيوات والحويطات.
إلى جانب تلك الميزانية تم تخصيص 1300 جنيه للعربان و 953 جنيه لأهالي ينبع البحر وآخرين، و143 جنيه لأشخاص من قبائل أخرى ليصل إجمالي كل مرتبات العربان في الموسم الواحد إلى 3984 ج
وخصصت مصر 1493 جنيه كمرتبات لأشراف مكة والمدينة وذلك تقديرًا لرعايتهم لحجاج بيت الله الحرام ومحبةً لهم لأنهم منتسبين إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد خصصت مصر مبلغ 3719 جنيه كصدقات ومرتبات لأهالي مكة والمدينة متعلقة بالتلاوة والتكية، وكذلك مبلغ 455 ج كمرتب لقاضي مكة والمدينة.
وتحت بند النفقات المتنوعة خصصت مصر مبلغ 29 ألف 931 جنيه تشمل التكية في مكة والمدينة وأموال النقل والمواصلات وخدمات المسجد الحرام والمسجد النبوي، فضلاً عن المصروفات النثرية.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال