همتك نعدل الكفة
9   مشاهدة  

رحلة الفناء والوجود واغتراب الروح عند البابا شنودة الثالث

البابا شنودة الثالث
  • مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال



في قرية صغيرة بمحافظة أسيوط، وُلد البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، في عام 1923. عاش طفولة قاسية بعد وفاة والدته، وقد أثرت هذه التجربة المبكرة بعمق في تكوينه الروحي والفكري، وغرست فيه إحساسًا عميقًا بالاغتراب عن الدنيا والبحث عن الحنان الإلهي كملاذ.

إن نشأته بين أحضان الكنيسة وتعليمه اللاهوتي شكّلا جوهر تجربته الروحية، وأثرًا واضحًا في شعره الذي يحمل مزيجًا من العشق الإلهي والزهد في الدنيا، وقد تأثر البابا شنودة بتعاليم المسيحية التي تؤكد على معاني المحبة، التضحية، والخلاص. تلك القيم قد انعكست في قصائده، حيث جسّد إحساسه بالغربة عن العالم الأرضي ورغبته في التوحد مع الله.

وفي ظل خدمته الطويلة، عايش البابا شنودة التحديات الاجتماعية والسياسية التي واجهت الكنيسة، وهذا جعل من شعره مرآةً للصراع الداخلي بين الوجود المادي والرغبة الروحية في العبور إلى عالم السماء. هذه الظروف أضفت على قصائده طابعًا فلسفيًا عميقًا، حيث يعبر عن تجربة روحية تنبع من الإيمان، وتعكس نشأته المتأثرة بالمعاناة والإخلاص.

الاغتراب في شعر البابا شنودة

تجربة الاغتراب من الظواهر الإنسانية العميقة التي تبرز في الأدب كمرآة تعكس صراع الروح في البحث عن المعنى، وفي شعر البابا شنودة الثالث يتخذ الاغتراب طابعًا خاصًا يعكس تفاعل النفس مع التوترات الروحية والمادية التي مرّ بها الشاعر، وقد تجلت هذه التوترات في شكل وحدات فنية صغرى تكمل بعضها البعض، لتشكل لوحة كبرى تمتد عبر قصائد الديوان.

في هذا السياق، تنعكس الروح البشرية في سعيها للتصالح مع تحديات الاغتراب، معبرة في بحثها عن النور الإلهي في ظلمة العالم. إن قصائد الديوان تمثل رحلة الروح نحو الاتحاد بالرب، إذ تنسجم تجارب الفقد، والأمل، والإيمان، والبحث عن الذات، لتكون نسيجًا متكاملاً يعكس جوهر الوجود الإنساني.

البابا شنودة الثالث
البابا شنودة الثالث

وفي قصيدة “من تكون” رحلة تأملية في الفناء والوجود، وكذا تُعبر عن لقاء روحي بين التصوف المسيحي والإسلامي، فمن خلال لوحات الصمت، والعزلة، والجمال الإلهي، يبرز الشاعر الحاجة إلى الانسحاب من العالم للوصول إلى النقاء الروحي، فكل لوحة في القصيدة تُشير إلى مرحلة في البحث عن المعنى، مما يجعل هذه القصيدة دعوة مفتوحة للتأمل في الرب ومعنى الحياة.

كل ما هو لك صمت وسكون

وهدوء يكشف السر المصون

اعتزلت الناس حتى ما ترى

غير وجه الله ذي القلب الحنون

إن اللوحة الأولى ترتكز على تيمة الصمت والسكون، وهي تيمة مركزية في التصوف المسيحي والإسلامي على السواء، فالصوفي يسعى للوصول إلى حالة من النقاء الداخلي، لذا يُصبح الصمت هنا وسيلة للتواصل مع الله، فالصمت لغة الله، كما يقول القديس يوحنا الصليبي، واستخدمها البابا شنودة الثالث لتتماشى مع مفهوم التأمل العميق في المسيحية، التي تَعتبرُ الصمت طريقًا إلى الكشف عن الذات الإلهية، ويتوافق هذا المبدأ مع قول ابن عربي في الفكر الصوفي الإسلامي “من عرف نفسه فقد عرف ربه”، أي أن معرفة الله تبدأ بمعرفة الذات.

ينتقل الشاعر من اللوحة الأولى إلى اللوحة الثانية من منطلق قول يسوع:” مملكتي ليست من هذا العالم”( يوحنا 36:18)

وتركت الكون بل أنسيته

لم يعاودك إلى الكون الحنين

تعكس هذه اللوحة مفهوم الاغتراب الروحي عن الأمور الدنيوية، حيث يتمحور الاهتمام حول المملكة السماوية، وفي التصوف، يُعتبر العالم حجابًا يجب تجاوزه للوصول إلى الحقيقة، وهو ما يتضح في قول الحلاج: “ليس في الجبة إلا الله”، أي أن الحاجات الدنيوية تذوب أمام وجود الرب، والشاعر هنا عبرعن مرحلة من العزلة الروحية، وهي فكرة شائعة ـ كما قلتُ ـ في الفلسفة الصوفية، حيث يرى الصوفي العالم كمرور مؤقت، والبحث عن الله يتطلب ترك الدنيا وراءه.

ومن لوحة التبتل والانسحاب من العالم الخارجي لتحيق الاتصال مع الله ينطلق الشاعر إلى لوحة أخرى تنظر إلى الحياة كمسرح عبثي، تتكرر فيه مشاهد الصراع والمعاناة ، وهوما يجعل الحياة تدور كحلقة مفرغة، فيقول :

هل ترى العالم إلا تافها

يشتهي المتعة فيه التائهون

كل ما فيه خيال يمحى

كل ما فيه سيفنى بعد حين

يصف الشاعر هنا عبثية الحياة المادية، وكيف أن كل ما في الدنيا زائل ومؤقت، وقد استمد هذه الصورة من رسالة يعقوب الذي يقول فيها: “الحياة بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل” (يعقوب 4:14)؛ أي أن العالم المادي لا يمتلك ثباتًا وأن الخلود لا يتحقق إلا في الله.

وفي اللوحة الرابعة يُبرز الشاعر النزعة الروحية للتحرر من القيود المادية فيقول:

هل ترى الآمال إلا محمرا

يتلظى بلظاه الآملون

لست منهم هم جسوم بينما

أنت روح فر من تلك السجون

في هذه اللوحة يعكس الشاعر التناقض بين الأمل الأرضيّ والمعاناة، إذ أن الآمال الدنيوية تجر صاحبها إلى نار المعاناة، بينما الأمل الحقيقي يُوجد في الروحانية، وأن الأمل الحقيقي والراحة لا يأتيان من الدنيا بل من العلاقة بالله.

إن البابا قد وصل إلى نهاية القصيدة حينما أدرك أن الراحة لا تأتي إلى باتحاده مع الله، ليعود مرة أخرى ويؤكد أن الصمت هو الخيط الأول للوصول إلى تلك الحالة، فيقول :

إن في صمتك سرا لن يرى

قدس اقداسه الا الصامتون

إن الصمت في هذه اللوحة يُعد قمة التأمل الصوفي، حيث يُصبح وسيلة لفهم الأسرار الإلهية، فالصمت هنا ليس مجرد غياب للكلام، بل هو حضور لروح الله في الإنسان.

ويستمر البابا شنودة الثالث الشاعر في تقديم رؤية عميقة حول الاغتراب من خلال تصوير حالة النفس البشرية التي تبحث عن المعنى في وجودها حيث يستكشف الشاعر عبر تفاعلاته الداخلية العلاقة بين الذات والخالق في عالم تبدو فيه الهوية مضطربة والبيئة مُعقدة كما في قصدية “سائح” و”غريب”، ففي قصيدة “سائح” ـ على سبيل المثال ـ تعكس رحلة البحث عن الذات وسط صحراء الروح، حيث يصبح كل قفر نقطة انطلاق نحو الاستنارة، بينما في قصيدة “غريب”، يُسلط الضوء على شعور الانفصال عن المجتمع والقيم السائدة، وهو ما يعزز حالة البحث عن الانتماء الحقيقي، وكذا نستطيع أن نرى كيف يختبر الشاعر حالة الاغتراب كدعوة للبحث عن الأبعاد الروحية للحياة، مما يعكس تجربة إنسانية مشتركة تتجاوز الحدود الثقافية والدينية. فالاغتراب هنا لا يُعتبر فقط شعورًا بالوحدة، بل رحلة مقدسة نحو الاكتمال الروحي والتواصل مع الرب في سياق تصوفي متجدد.

البابا شنودة الثالث
البابا شنودة الثالث

إن قصيدة “غريب” تدمج تجربة الفلسفة الصوفية بتعاليم الإنجيل لتقدم نظرة عميقة إلى تجربة الإنسان في عالم مزدحم ومعقد. إنها دعوة للتأمل والتفكير في معنى الحياة، وكيف يمكن للفرد أن يتجاوز الاغتراب من خلال السعي نحو الاتصال الإلهي. ومن قراءة القصيدة نرى أن الحياة الروحية هي رحلة تتطلب شجاعة وتفانيًا، وأن الاغتراب يمكن أن يكون خطوة نحو الفهم الأعمق للذات والعلاقة بالرب.

تبدأ القصيدة بعبارة “غريبا عشت في الدنيا”، وهي عبارة تعكس شعور الشاعر بعدم الانتماء إلى العالم، هذا الاغتراب هو حالة وجودية تعكس محنة إنسانية أساسية، وهي الانغماس في التأمل الذاتي، وبالمناسبة هذه الفكرة يدعمها الفلاسفة الوجوديين مثل سارتر وكامو، إلى أن الإنسان موجود في عالم عبثي ويجب أن يجد معنى لحياته بنفسه، هذه الفكرة تتماشى مع ما يشعر به الشاعر، في رحلته البحث عن المعنى في عالم يبدو فارغًا من القيم.

ثم يعبر الشاعر عن عدم قدرته على التواصل مع الآخرين في قوله:

غريبا لم أجد سمعا

أفرغ فيه آرائي

يظهر هنا انقطاعه عن المحادثة الإنسانية العامة، وهي نقطة حاسمة في الفلسفة الوجودية، حيث يعتبر وجود الفرد هو الذي يعطي معنى للحياة، ولكن في حالة الشاعر، يبدو أن هذا الوجود مكفوف عن التعبير، وكذا العزلة والانسحاب عن العالم للوصول إلى الحقيقة الإلهية، ويوضحه الشاعر في قوله:

تركت مفاتن الدنيا

ولم أحفل يناديها

هنا قراره بالابتعاد عن الملهيات المادية وانشغاله بالبحث عن الروحانية الحقيقية، متوازية مع أفكار الصوفية التي تدعو إلى التخلي عن الشهوات والملذات الدنيوية من أجل الاقتراب من الله.

هذا النوع من الزهد يتجلى أيضًا في قوله:

خلي القلب لا أهفو

لشيء من أمانيها

يدعو الشاعر في هذا البيت إلى الحفاظ على نقاء القلب بعيدًا عن أماني الدنيا. هذا التوجه ينسجم مع ما يقدمه الكتاب المقدس في قول يسوع في إنجيل متى: “لأَنَّهُ أَيْنَمَا يَكُونُ كَنْزُكَ، هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا” (متى 6:21). وهذا يعني أن الرغبات الدنيوية تلهي الإنسان عن الإله، ويجب على المؤمن السعي لتحقيق اتصال أعمق مع الله.

كما يظهر في القصيدة صراع داخلي بين الشاعر وهويته الروحية، إذ يعبر عن شعور عميق بالوحدة في قوله:

وأقبع ههنا وحدي

إقرأ أيضا
أنطوني كوين

بقلبي الوادع النائي

هذا الشعور يمثل أيضًا حالة من الاغتراب الروحي، فالطريقة الصوفية تشير إلى أن الطريق إلى الله يتطلب العزلة عن المجتمع وإيجاد السلام الداخلي، لذا يتعامل الشاعر مع قلقه بشأن الانتماء والاتصال بالآخرين، وفي الوقت نفسه يسعى لتحقيق هوية روحية منفصلة عن المعايير الدنيوية، كما في قوله:

أسير كأنني شبح

يموج لمقلة الرائي

وفيها تأمل الشاعر لحظات قدسية، يشير فيها إلى إحساسه بأنه غير مرئي في عالم مزدحم، ولكنه في الوقت نفسه ينعم بلحظات من التأمل العميق مع الرب، وهذا يتماشى مع الفهم الصوفي للمسعى الروحي الذي يتطلب الانفصال عن العالم الخارجي لتحقيق اتصال أعمق مع الإله.

كما يشير الشاعر إلى أهمية المجتمع الروحي والمكان المقدس في تعزيز الاتصال بالله، وذلك في قوله:

هنا في الدير آيان

تعزيني وأمثال

وهنا يتجلى التأثير الإنجليلي في النص، حيث يذكر أن ” الإنجيل مصباح”، وهو اعتراف بأن تجربة الشاعر مستمدة من كلمات الكتاب المقدس.

ويستكمل البابا شنودة صورة الاغتراب الروحي الذي يعيشه الإنسان في عالم معقد ومتغير، تتخللها التأملات الفلسفة الصوفية من خلال قصيدة ” سائح” ، إذ تبحث عن المعنى الإيمان في ظل العزلة والوحدة، فيقول في مطلع القصيدة :

أنا في البيداء وحدي

ليس لي شأن بغير

يبدأ الشاعر بتصوير حالته الوجودية كإنسان غريب في هذا العالم، فهذا البيت يصف حالة التجرد الكامل عن الدنيا، من خلال عيشه في الصحراء، وقد استخدم لفظة” البيداء” لتشير إلى الخلاء الروحي الذي يمر به المتصوف، لا سيما المسيحي الذي يعتبر البيداء رمزًا لمرحلة التقنية والعزلة، ثم يسعى إلى حالة من الانفصال التام عن كل ما هو مادي ومؤقت في لفظة ” وحدي” وتعبر هنا عن الوحدة الروحية التي يشعر بها، هذه الوحدة ليست مجرد عزلة جسدية بل هي انفراد الروح بالرب بعيدًا عن دنيا الناس.

وحينما ينفرد الشاعر مع الرب يسعى لبناء علاقة حميمة مع الإله تصل نشوتها حينما تتحد روحه مع الله، وظهر هذا في قوله:” ليس لي شأن بغيري”، كأنما أراد أن يقول عظة مفادها أن الابتعاد عن مشاغل الدنيا هو سبيل الوصول إلى هذه الحالة من الاتحاد.

ثم يرسم الشاعر إطار للوحة سيريالية تتحدى الفهم التقليدي للزمان والمكان، فيها يُظهر الشاعر كيف أن تكون الحرية تجربة ذات أبعاد مختلفة تعبر عن المرونة، والقدرة على التكيف، فيقول :

أنا حر حين أغفو

حين أمشي حين أجري

في البيت ثنائية تعكس تجربة إنسانية شاملة، حيث تتعايش الرغبة في التحرر مع الحاجة إلى التأمل والسكون، ويلاحظ أن البيت يتضمن تكرار لفظة “حين” وهي توحي بأن اللفظة التي يعيشها الشاعر لحظة ليست عابرة، بل هي حالة دائمة تتواجد في ظروف مختلفة، فالحرية لا ترتبط بمكان أوظرف معين، وكذا حالة الغفوة التي تشير إلى السكون والتأمل. ولفظة”غفوة” تمثل أنسحابًا من العالم الخارجي، وهي لحظة يمكن فيها للروح أن تتأمل في أعماقها

بينما تُشير” حين أمشي” و”حين أجري” إلى حركة الحياة، فالمشي يمثل الرتابة والروتين، في حين أن الجري قد يُفهم كتمثيل للبحث عن الحرية والانطلاق، هذه الحرية تبدو متناقضة مع شعوره بعدم الانتهاء، مما يعكس التعقيد العاطفي والوجودي الذي يعيشه .

يلتقط الباب أنفاسه إثر التعقيدات الوجودية الذي يعيشها، كما نلتقط نحن أنفاسنا ونستكمل في مقال قادم الحب الإلهي الذي هو جزء من فلسفة التصوف .

اقرأ أيضًا : المجتمعات المتجاذبة بين العلم والشعوذة

الكاتب

  • البابا شنودة الثالث مي محمد المرسي

    مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .

    كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال






ما هو انطباعك؟
أحببته
0
أحزنني
0
أعجبني
0
أغضبني
0
هاهاها
0
واااو
0


Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
Slide
‫إظهار التعليقات (0)

أكتب تعليقك

Your email address will not be published.







حقوق الملكية والتشغيل © 2022   كافه الحقوق محفوظة
موقع إلكتروني متخصص .. يلقي حجرا في مياه راكدة

error: © غير مسموح , حقوق النشر محفوظة لـ الميزان