الجدران العازلة .. عندما تنتهي حلول العقل واللسان تظهر الحواجز الأسمنتية لفض النزاع
-
مريم مرتضى
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
عندما تسقط الدبلوماسية تعلو الجدران مقولة صحيحة بنسبة كبيرة إذا ما ألقينا نظرة على خريطة العالم اليوم، فهي قد اصبحت عبارة عن عدة جدران أسمنتية وأسلاك مُكهربة تفصل الشعوب والبلدان عن بعضها البعض وتنتزع منها أراضيها.
والحقيقة أن الجدران العازلة لم تكن يومًا مجرد فواصل أسمنتية فقط، إنما هي بشكل أكبر حواجز نفسية ومعنوية تتسبب في انقطاع العلاقات الإنسانية على طرفي الجدار، وشكل هندسي يختزل الكثير من الأزمات والصراعات بين أطراف وصلت إلى طريق مسدود.
وهناك أسباب عدة لنشوء هذه الجدران فبعضها جدار فصل عنصري يعترف من خلاله كيان بعنصريته واحتلاله، وقد يُقام الجدار لدواعِ أمنية كالحد من التهريب والهجرة الغير شرعية، وقد يكون الجدار عازلًا بين شعبين شقيقين على مدى عصور دبت الفُرقة بينهما.
سور الصين العظيم
بعودة تاريخية نجد أن من أوائل الجدران العازلة في التاريخ هو سور الصين العظيم الذي بناه الصينيون في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان الهدف منه هو حماية الحدود الشمالية للإمبراطورية الصينية من الاعتداءات، وكان يتكون من منظومة دفاعية مُتكاملة، والعديد من الثكنات والحصون وأبراج المراقبة، كما يحتوي على قناة لتصريف مياه الأمطار على قمته، وتم بنائه بطريقة متعرجة وفقًا لأفكار غريبة كانت مُتداولة في تلك الفترة بأن الشياطين تسيرُ في خطوط مستقيمة، واختلفت المواد التي تم استخدامها في بناء السور، بحسب المنطقة التي يصلها السور نفسه، حيث أنه يمتد على مساحات شاسعة، منها الصحاري، والوديان، والجبال، والمروج، فهو يمتد من البحر الأصفر شرقًا إلى صحراء غوبي غربًا، وقد استخدم البُناة الأحجار المحلية غير المقاوِمة للظروف الجوية في المناطق الصحراوية، بينما استخدموا الترابَ القاسي والطوب غير المحروق في المناطق الترابية، في عهد أسرة “مينغ” الحاكمة استخدم البُناة الحجارة الصلبة والصخور القاسية في البناء.
ويبلغ عرض السور في بعض أماكنه أربعة أمتار، وفي أماكن أخرى كقاعدته مثلًا يبلغ تسعة أمتار، وفي الجهة العلوية منه يبلغ ثلاثة أمتار، أما ارتفاعه فإنه يصل ثلاثة أمتار في أغلب الأماكن، وثمانية أمتار في أماكن أخرى، وقد هُدمت أغلب أجزاء السور لمرات عديدة، ولكن ترميمها وإعادة بنائها من جديد، ولم يبقَ محفوظًا من السور حتى يومنا هذا إلا جهته الشرقية المُمتدة عدة كيلو مترات، مع وجود بعض الآثار البسيطة في أماكن مختلفة، ويبلغ طوله حوالي 21196كم، وعلى الرغم من المجهود الذي بذله حُكام الصين في تشييد هذا السور، إلا أنه فشل في صد الهجمات التي تعرضت لها البلاد، وخاصة من البرابرة، وكان “جنكيز خان” هو أّول قائد مغولي استطاع أن يقتحم السور المنيع وبرفقته أعداد كبيرة من جيشه، في عام 1213م.
إقرأ أيضًا…أمازيغ مصر .. جنود ملتزمون بمواقعهم عبر مئات السنين
جدار برلين
اختلفت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية فيما بينهم حول مصير ألمانيا المُنهزمة وقرروا تقسيمها إلى بلدين هما جمهورية ألمانيا الاتحادية “الغربية”، وجمهورية ألمانيا الديمقراطية “الشرقية”، ونتيجة لتلك القرارات انقسمت برلين إلى جزأين كل منهما عاصمة لإحدى الدولتين، وصارت برلين هي بؤرة الصراع داخل الحرب الباردة بين “واشنطن” زعيمة المعسكر الرأسمالي، و”موسكو” قائدة المعسكر الشيعي، وأصبحت ميدان للمعارك بينهما مما استوجب اتخاذ كافة الاحتياطات الأمنية لتجنب تبادل الحذر من تسلل الجواسيس عبر الحدود.
وخلال سنوات 1945م، 1961م تمكن نحو ثلاثة ملايين مواطن بألمانيا الشرقية من ذوي المهارات الفنية العالية من الهرب إلى ألمانيا الغربية عبر نقاط تلاقي حدودية في برلين، ونتيجة لذلك أصدر رئيس ألمانيا الشرقية “فالتر أولبريشت” أمرًا بالبدء في تنفيذ “عملية روز” لتشييد “جدار عازل” للحماية من التجسس وأعمال التخريب القادمة من الغرب في يوم 13 أغسطس 1961م، ، وأصبح هناك حاجز يسمح بالتحكُم في انتقال سكان ألمانيا الشرقية إلى المناطق التي تحتلها القوات الغربية.
لكن الألمان الشرقيين واصلوا الانتقال إلى الغرب بكل الوسائل، وقاموا بحفر أنفاق أسفل الجدار الذي كان يفصلهم عن عائلاتهم وأصدقائهم، فنجح الآلاف منهم في الفرار وأخفق آلاف آخرون.
وبدءًا من 1 أكتوبر 1973م وُضع نظام جديد أجاز لفرق مراقبة الجدار إطلاق النار مباشرة على أي شخص يحاول اجتيازه، وقد قـُتل 136 شخصًا برصاص حرس الحدود أثناء محاولاتهم اجتياز الجدار.
وفي 7 أكتوبر 1989م خرج عشرات الآلاف في مظاهرات بألمانيا الشرقية ضد نظامها، وما لبث عدد المشاركين فيها أن ارتفع إلى مليون، مما تسبب في تقديم المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الحاكم استقالته.
وفي مساء 9 نوفمبر 1989م أعلنت برلين الشرقية فجأة سقوط جدار برلين وفتح الحدود بين الألمانيتين على مصراعيها، فباشر المئات من الألمانيين هدم أجزاء من الجدار، وتدفق عشرات الآلاف خلال ساعات إلى ألمانيا الغربية عبر “بوابة برندبورغ” الشهيرة.
وفي 13 يونيو1990م بدأت رسميًا عملية هدم جدار برلين الذي مثّل انهياره أول خطوة عملية في اتجاه توحيد ألمانيا وانتهاء الحرب الباردة، وتفكُك الاتحاد السوفيتي.
الجدار العازل في فلسطين
بدأت حكومة “أرئيل شارون” في 23يونيو 2002م، ببناء جدار عازل مُمتد على طول الخط الأخضر مع الضفة الغربية، بدعوى منع تسلل منفذي العمليات الفدائية إلى إسرائيل، يبلغ طول الجدار حوالي 770 كم، وتم بناء ما يقارب 406 كم منه أي 52.7% من المسار الكامل للجدار، في حين هناك 322 كم مخطط لبنائها، وجاري العمل على بناء 42 كم، ويعزل الجدار مساحة 733 كم من الأراضي، ويقدر طول الجدار الشرقي الذي يمتد من الشمال نحو الجنوب بحوالي 200 كم، حيث تعزل وتستولى السلطات الإسرائيلية من خلال الجدار الشرقي على منطقة الأغوار والتي تُعتبر المصدر الرئيسي للغذاء للشعب الفلسطيني.
وقد تكون الدوافع الأمنية التي كانت وراء إقامة إسرائيل لجدار العزل حقيقية، إلا أن الجدار ترك أثار سلبية للغاية على الشعب الفلسطيني اجتماعيًا، حيث يمر الجدار بأراض الضفة الغربية مما يعني أنه التحكم في حياة 210,000 فلسطيني يسكنون 67 قرية ومدينة بالضفة الغربية، وإعاقة وصولهم إلى حقولهم أو الانتقال إلى القرى أو المدي الفلسطينية الأخرى، كما تسبب في إعاقة وصول سكان المناطق الفلسطينية الريفية إلى المستشفيات في مدن طولكرم وقلقيلية والقدس الشرقية، كما تأثر نظام التعليم الفلسطيني من جِراء هذا الجدار العازل حيث مَنع المدرسين والتلاميذ من الوصول إلى مدارسهم، خاصة وأن المعلمين يصلون من خارج هذه القرى.
الكاتب
-
مريم مرتضى
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال