“الجولان وعائلة الأسد” سقوط بالأمر وتخلي عن تحريرها بالوراثة
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
انهارت بنود اتفاقية فض الاشتباك في الجولان السورية بعدما شنَّ طيران الجيش الإسرائيلي غارات عنيفة على مواقع الجيش السوري النظامي واحتل “الجولان“، وذلك في أعقاب ساعات قليلة من سقوط نظام الرئيس السوري السابق “بشار الأسد” [ولد عام 1965م وتولى حكم سورية سنة 2000م]، وهروبه من البلاد في الثامن من ديسمبر الماضي.
وفي بيان له، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” [ولد 1941م وتولى رئاسة الحكومة الإسراءها أكثر من مرة، آخرها من سنة 2022م وحتى الآن]، انهيار اتفاق فض الاشتباك في الجولان المبرم بين إسرائيل وسورية عام 1974م [لقراءة بنود الاتفاقية هـــنـــا ]، معتبرًا أن منطقة الجولان أصبحت ـ وفقًا لزعمه ـ أرضًا إسرائيلية خالصة، في خطوة تعكس تصعيدًا خطيرًا يفتح أبواب المنطقة على مشاهد من الصراع والتوتر.
ويدور البحث عن تفاصيل اتفاق فض الاشتباك بين إسرائيل وسورية، ويناقش هذا التقرير قصة ذلك الاتفاق وتاريخ أزمة الجولان منذ وقوع “نكسة يونيو 1967م“ وحال الجولان وعائلة الأسد.
الجولان وعائلة الأسد .. أخطاء مريبة بدأت عام 1967م
اتفق قادة إسرائيل العسكريين الذين حضروا أحداث يونيو 1967م على أن “سقوط الجولان” في قبضتهم كان حدثًا غريبًا وغير متوقع بالنسبة لهم، وأشبه بمعجزة مفاجئة في خضم تلك الحرب.
اقرأ أيضًا
“الإجابة من تاريخه” لماذا لم يقم الإسلام السياسي بمواجهة حقيقية مع العدو؟
سبب الاندهاش الذي أصاب قادة إسرائيل هو البيان الذي صدر عن الجيش السوري بقيادة وزير الدفاع “حافظ الأسد” [1930م – 2000م]، معلنًا “سقوط الجولان” قبل أن يحدث ذلك بالفعل، فصار هذا البيان، بمثابة إعلان استسلام قبل أوانه، ولم يكن إلا هدية مجانية عززت من نجاح الاحتلال الإسرائيلي، وحتى هذه اللحظة يبقى ذلك الحدث لغزًا لم يفهمه الإسرائيليون أنفسهم، ويستشهدون به كدرسٍ في كيف يمكن للخطأ أن يقلب موازين الحرب.
في مذكراته، تكلم “إسحاق رابين” [1922م – 1995م]، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي وقت حرب يونيو 1967م ورئيس الوزراء لاحقًا، عن كواليس ذلك البيان في 10 يونيو، إذ يقول إنه أمر “دافيد إلعازار” [1925م – 1976م]، قائد المنطقة الشمالية، بالتراجع عن احتلال “مدينة القنيطرة” والتركيز على تثبيت خط إسرائيلي مستندًا إلى المكاسب الميدانية التي حققها على الجبهة المصرية والأردنية دون المساس بالمدينة الرئيسية في “هضبة الجولان”.
ولكن، فجأة، تغيرت المعطيات بسبب خطأ استراتيجي من الجانب السوري ففي تمام الساعة 8:30 صباحًا، بث راديو دمشق بيانًا يعلن فيه “سقوط القنيطرة” في أيدي القوات الإسرائيلية، وهذا الإعلان كان صادمًا وغير دقيق، إذ لم تكن المدينة قد سقطت بعد.
ووصف “رابين” ذلك البيان بقوله متساءلاً «فما الذي دفع السوريين إلى نشر هذا البيان الكاذب؟ لا يُعرف بالتأكيد، ربما أرادوا خلق الانطباع بأن إسرائيل تهدد دمشق، لتوجيه ضغط سياسي علينا أو لإرغام السوفييت على تهديد إسرائيل صراحةً بالتدخل في المعارك إذا لم يتوقف الجيش الإسرائيلي، وربما يكون البيان ناتجًا عن البلبلة والذعر، دون أن تُعرف نتائجه».[1]
وذكر رابين أن البيان السوري كان له تداعيات خطيرة وسريعة؛ إذ أدى إلى تفاقم الذعر في صفوف القوات السورية، التي تحولت انسحاباتها إلى فوضى عارمة، وفي ظل هذا التطور، وافق وزير الدفاع الإسرائيلي، “موشيه ديان” [1915م – 1981م]، على تمديد الهجوم المكثف حتى الساعة الثانية ظهرًا، مما ساهم في تحقيق المزيد من المكاسب الميدانية لصالح الجيش الإسرائيلي.
ومن جهته عبّر “موشيه ديان”، وزير الدفاع الإسرائيلي، عن دهشته واستغرابه في مذكراته، من السهولة البالغة التي استولت بها إسرائيل على هضبة الجولان خلال حرب يونيو عام 1967م في الفصل المخصص ليوميات تلك الحرب.
تكلم “موشيه ديان” إلى واقعة العاشر من يونيو، حينما وصلت القوات الإسرائيلية إلى المواقع السورية لتجدها خاوية على عروشها، وقد تركها الجنود السوريون فارين دون قتال، تاركين وراءهم مدافع مضادة للدبابات وأخرى أوتوماتيكية خفيفة وثقيلة.
وأردف “ديان” موضحًا أن أحد الأسباب الرئيسية لهذه الهزيمة كان البيان الذي أذاعه “راديو دمشق“، مدعيًا سقوط “مدينة القنيطرة” في يد الإسرائيليين، رغم عدم وجود أي جندي إسرائيلي فيها آنذاك، وما إن وصل هذا الخبر إلى الجنود السوريين حتى عَمّ الاضطراب صفوفهم، وهرعوا إلى الفرار، مخلفين مواقعهم فارغة، وعندما دخل الجيش الإسرائيلي القنيطرة ظهرًا، كآخر محطة في حملته على الجولان، وجد المدينة خالية تمامًا.[2]
الأمر ذاته قاله “باتريك سيل” [1930م – 2014م]، الصحفي المقرب من حافظ الأسد، حيث قال في تاريخه عنه «أذاع راديو دمشق بلاغًا من وزارة الدفاع أعلن فيه أن مدينة القنيطرة قد سقطت، ومهما يكن مصدر هذا البلاغ، فقد كان غير صحيح، إلا أنه استمر قائمًا لأكثر من ساعتين إلى أن أمر الأسد بإذاعة تصحيح له، وفي هذه الأثناء، تحول الانسحاب إلى هزيمة منكرة، حيث راح الجنود الذين كانوا على الجانب الخطأ من المدينة يفرون طلبًا للنجاة بأرواحهم، واستغلت إسرائيل هذه الغلطة، فاستأنفت تقدمها على الفور واستولت على القنيطرة، وهرب أحمد المير قائد الجبهة السورية في الجولان، على ظهر حصان إلى حوران بعد تعرض رَتْلِه المدرع للنيران، وعُثر على بعض الجنود الهاربين فيما بعد وهم يرعون الأغنام بين الجبال».[3]
يُعْرَف هذا البيان في التاريخ السوري باسم “البلاغ 66” وألقى الضوء على ملابسات هذا البيان “محمد الزعبي“ [1930م – 2024م]، وزير الإعلام السوري في ذلك الوقت، حيث قال أثناء حوارات الصحفية والتلفزيونية ومنها حوار على قناة العربية[4]، إنه كان يتلقى جميع البيانات العسكرية من غرفة العمليات، حيث كان “حافظ الأسد” يتولى المسؤولية، ومن ثم تُرسل البيانات إلى وزارة الإعلام للنظر فيها.
وعن “البلاغ 66” تحديدًا، يروي “الزعبي” قائلاً «البلاغ أنا وضعته ولم أقم بإذاعته، بل وضعته في ظرف وأرسلته إلى القيادة الموجودة في القصر الجمهوري عبر مدير مكتبي، بعد وقت قصير، تلقيت اتصالًا من أحد القيادات البارزة، وقال لي: أذيعوا البيان، لأن الرفيق حافظ اتصل معنا وقال إن القنيطرة قد سقطت بالفعل».
ويضيف “الزعبي” أن البلاغ 66 كان كارثيًا، لأن أقرب دبابة إسرائيلية في ذلك الوقت كانت على بُعد حوالي 4 كيلومترات من “القنيطرة”، ولم تكن المدينة قد سقطت بعد فعليًا، هذا البيان تسبب في حالة من الفوضى والذعر، وكان له تداعيات خطيرة على مسار الأحداث في “الجولان”.
وأضاف “الزعبي” أن “حافظ الأسد” أقر له قائلاً: «يا محمد، يبدو أننا استعجلنا في إذاعة البلاغ، لقد اتصل بي ضابط من الجبهة، دون أن يذكر اسمه أو رتبته، وأخبرني أن القنيطرة قد سقطت، فصدقته على الفور». ويعلق الزعبي أنه رغم محاولة تدارك الخطأ بإذاعة بيان تصحيحي، إلا أن ذلك جاء بعد فوات الأوان.
من الجدير بالذكر عند الحديث عن “البيان 66″، أن من تكلم عنه لم يتركه حافظ الأسد، فمثلاً تم نفي وزير الإعلام “محمد الزعبي”، أيضًا دخل المعتقل وزير الصناعة “مروان حبش” [ولد 1938م–] الذي كان زميلاً لـ “حافظ الأسد” في حزب البعث، وتم اعتقاله من عام 1970م حتى عام 1993م.
ولا يمكن اختزال “سقوط الجولان” في “البيان 66” إذ يجب الكلام عن ملف أوضاع الجيش السوري آنذاك، وهو الملف الذي تناوله ضابط الاستخبارات “خليل مصطفى” [ولد 1938م] في كتابين وبسببهما تم اعتقاله عام 1970م بعد اختطافه من “لبنان” ولم يُعْرَف له أثر حتى الآن.
حيث قال “خليل مصطفى” أن انقلاب حزب البعث في عام 1963م، الذي نفذته “اللجنة العسكرية“، أحدث زلزالًا في بِنْيَة المؤسسة العسكرية السورية، فقد سعت القيادة البعثية بأن تعين “حافظ الأسد” وزيرًا للدفاع، وخلال أربع سنوات متلاحقة، عمل على إعادة تشكيل الجيش، لا بدافع الإصلاح أو تعزيز الكفاءة، وإنما خوفًا من شبح الانقلابات المضادة.
وقد بلغ عدد الضباط الذين شملتهم قرارات التسريح نحو ألفي ضابط، غالبيتهم من قادة الكتائب ورؤساء عمليات الأولية وقادة السرايا، ليحل محلهم عناصر اختيرت بعناية على أسس طائفية، في مشهد عكس حجم التلاعب بالمؤسسة العسكرية وتحويلها إلى أداة تخدم أهدافًا ضيقة بعيدًا عن المصلحة الوطنية.[5]
وفي 15 سبتمبر عام 1970م، اشتعلت نيران المواجهة التي عُرِفَت باسم “أيلول الأسود” بين الأردن والفدائيين الفلسطينيين، وكانت الساحة تعج بالصراع والدماء، حينها، قرر “صلاح جديد” [1926م– 1993م] رئيس اللجنة العسكرية الحاكمة لسورية، أن يتدخل لنصرة الفدائيين، واندفعت مدرعات الجيش السوري عبر الحدود إلى الأردن في يونيو 1970م، لكنها لم تلبث طويلاً حتى عادت مهزومة في 22 سبتمبر.
كان “حافظ الأسد” يشرف على تلك المعركة مباشرةً، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهي سفن القيادة، فأُلقيت مسؤولية الإخفاق كاملةً على عاتقه، وعلى إثر ذلك، دعا “صلاح جديد” إلى انعقاد مؤتمر استثنائي للقيادة القومية في حزب البعث في 30 أكتوبر 1970م، لبحث تداعيات الهزيمة.
ويحكي “ضافي الجمعاني” [1927م– 2020م]، القيادي البعثي والمشارك في ذلك المؤتمر، أن المحاسبة لـ “حافظ الأسد” كانت العنوان الأبرز، كان جديد، بثقة مفرطة، يرى أنه يملك الأغلبية بين قيادات الحزب، وقادر على فرض إرادته، وبعد أحد عشر يومًا، صدر قرار بتجريد “حافظ الأسد” من منصبه.
لكن “الأسد”، الذي كان يُراقب المشهد عن كَثَب، باغتهم بانقلاب أبيض في 16 نوفمبر عام 1970م سماه “الحركة التصحيحية“، أطاح فيه بالرئيس “نور الدين الأتاسي” [1929م– 1992م] ورئيس اللجنة العسكرية صلاح جديد، واقتادهما إلى سجن المَزَّة العسكري[6]، وفي 22 فبراير 1971م صار “حافظ الأسد” رئيسًا للجمهورية، وتم تثبيته في الحكم يوم 12 مارس من نفس العام.
بقي “صلاح جديد” في سجن المَزَّة العسكري حتى الموت عام 1993م، بينما خرج “نور الدين الأتاسي” مطلع عام 1992م، مريضًا بالسرطان، ليرحل عن الدنيا بعد أشهر قليلة.
فض الاشتباك في الجولان .. اتفاقية لم تحترمها إسرائيل من 1981م !
بعد نكسة 1967م، توصلت سورية وإسرائيل إلى هدنة نسجت خيوطها على ما يُعرف بـ”الخط البنفسجي“، إلى أن جاءت حرب أكتوبر 1973م، واندفعت القوات السورية نحو هضبة الجولان، مسطرةً تقدمًا في الأجزاء الجنوبية منها، ولكن سرعان ما أطلقت القوات الإسرائيلية هجومًا مضادًا، استردت به ما خسرته وأعادت قبضتها على الهضبة، ولم تقف إسرائيل عند حدود ذلك الخط، بل أغارت شرقًا نحو أعماق الأرض السورية، محتلةً مواقع جديدة لم تطأها من قبل، بما في ذلك الطريق الرابط بين هضبة الجولان ودمشق، وقمة جبل الشيخ.
وفي عام 1974م، ووسط تصاعد الجهود الدولية للتهدئة، وُقّعت اتفاقية “فض الاشتباك في الجولان” يوم 31 مايو 1974م بين الجانبين، لتعيد بموجبها إسرائيل الانسحاب من المناطق التي احتلتها خلال حرب 1973م، بالإضافة إلى بقاع محدودة استولت عليها عام 1967م، كان أبرزها مدينة القنيطرة.
في سياق التفاهمات التي جرت بين الأطراف المعنية، تم التوصل إلى اتفاق يقضي بإنشاء منطقة عازلة أو ما يُعرف بـ “منطقة الفصل” بين الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل في هضبة الجولان وبين الجمهورية السورية، وتتموقع هذه المنطقة داخل الأراضي التي تخضع لسيطرة سورية، في الشرق من الخط البنفسجي، ممتدة من جبل الشيخ في الشمال حتى الحدود السورية الأردنية في الجنوب.
وتولت سورية مهمة الإدارة المدنية للمنطقة العازلة طبقًا لاتفاقية فض الاشتباك في الجولان مع إبقاء قواتها العسكرية بعيدًا عن حدودها، كما نصت الاتفاقية على منطقة تمتد على جانبي الحدود، يُحصر فيها التواجد العسكري للطرفين ضمن حجم محدود وفقاً لتفاهمات دقيقة بينهما، وإضافة إلى ما سبق، تطرقت الاتفاقية إلى بنود أخرى شملت تبادل رهائن الحرب وجثامين الجنود القتلى بين الجانبين.[7]
تمتد منطقة الفصل طبقًا لاتفاق فض الاشتباك في الجولان على مسافة 75 كيلومترًا من الشمال إلى الجنوب، بعرض يتراوح بين 200 متر و10 كيلومترات، وفي داخلها تتواجد قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، المعروفة بـ “أندوف“، التي تتحمل مسؤولية مراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار بين الطرفين.
تألفت هذه القوة وفق اتفاق فض الاشتباك في الجولان من 1200 فرد من جنسيات 13 دولة، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 350 لعام 1974، إثر توقيع اتفاقية فض الاشتباك، ومنذ ذلك الحين يتم تجديد تفويضها من قبل المجلس كل ستة أشهر، وفي نهاية يونيو 2024، جدد المجلس تفويض القوة حتى نهاية العام.
أبرز الخروقات الإسرائيلية في الجولان
وصمت جيش سورية طوال 30 سنة
بعد 7 سنواتٍ من توقيع اتفاقية فض الاشتباك في الجولان عام 1974م، أعلنت إسرائيل، في 14 ديسمبر 1981م، ضمَّ مرتفعات الجولان رسميًا إلى الأراضي التي احتلتها، في خرق صارخ للاتفاقية الدولية الموقعة سنة 1974م، وجاء هذا الإعلان بعد تقديم الحكومة الإسرائيلية مشروع قانون إلى الكنيست بشأن ضم الجولان، حيث حصل على موافقة 63 عضوًا، ووفقًا للقانون، أصبحت مرتفعات الجولان المحتلة جزءًا من إسرائيل.
وفي أعقاب هذا القرار، ارتفع عدد المستوطنات الإسرائيلية في الجولان إلى 28 مستوطنة، يسكنها نحو 7500 مستوطن، وتميّزت جميع هذه المستوطنات بطابعها العسكري، سواء في تخطيطها أو تحصينها، ما يعكس استمرارية الاحتلال الإسرائيلي في تعزيز وجوده بالمنطقة.
ونجحت إسرائيل في تهجير أغلبية السكان السوريين من هضبة الجولان، حيث بلغ عدد المهجّرين حوالي 90% من سكانها، إذ تقلّص عدد السوريين الباقين إلى نحو 14 ألف نسمة فقط من أصل 130 ألفًا كانوا يقطنونها، كما شهدت الهضبة تقلّصًا مأساويًا في عدد قراها، التي كانت تُعدّ 80 قريةً نابضةً بالحياة، إلى أربع قرى فقط تتمركز في شمالها، شاهدةً على مأساة إنسانية لم تندمل جراحها.[8]
لم يتجاسر حافظ الأسد، القائد الأعلى للقوات المسلحة السورية، على اتخاذ قرار بالمواجهة مع إسرائيل، بل اكتفى بإعلان أن “سورية تحتفظ بحق الرد”، ذلك الرد الذي ظل حبيس التصريحات ولم يتحقق يومًا ما، وأسباب ذلك أن الأسد كان يدرك تمام الإدراك حرج موقفه العسكري، إذ كانت القوات السورية غارقة في مستنقع الحرب الأهلية اللبنانية منذ أن أعلنت سورية وصايتها على لبنان عام 1976م.
والغريب أنه حين اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982م، بعد عام واحد فقط من إعلان ضم الجولان، لم يحرك الأسد ساكنًا لمواجهتها، ومما زاد الطين بلة الانقسامات الداخلية في الجيش السوري، والتي اشتدت بسبب الخلافات الحادة بين حافظ وأخيه رفعت، خاصة بعد محاولة الأخير الانقلاب عليه عام 1983م، عقب عام واحد من قصفهما مدينة حماة.
نفذت إسرائيل، على مدى سنوات حكم حافظ الأسد، مخططات إنشاء المستوطنات في الجولان بعد عمليات التهجير القسري بحق أهلها، جاعلةً من الأرض المحتلة ساحة لتغيير ديموغرافي ممنهج.
وحين أُسدِل الستار على عهد الأسد الأب برحيله عام 2000م، فتحت إسرائيل صفحة جديدة من التصعيد ضد الجيش السوري، الذي كان منشغلاً في خضم أحداث لبنان.
وفي 14 إبريل عام 2001م، شنت غارة جويّة استهدفت محطة رادار سورية في منطقة ضهر البيدر اللبنانية، لتتبعها، بعد شهرين فقط، بغارة أخرى طالت محطة رادار سورية في سهل البقاع، في تصعيد متسارع يُظهر نواياها التوسعية وعداءها المستمر.
في 8 يناير 2003، وقعت اشتباكات بين القوات الإسرائيلية والسورية في مرتفعات الجولان لتزيد المستوطنات في ديسمبر من نفس العام، أعقب ذلك، في إبريل من نفس العام، قصف إسرائيلي استهدف مواقع تابعة للجيش السوري في لبنان ثم تهديد بتكرار القصف في أغسطس.
وفي 5 أكتوبر 2003م، شنت الطائرات الإسرائيلية غارة على معسكر مهجور في ضاحية عين الصاحب قرب دمشق، وصرحت إسرائيل بأنه معسكر تدريب تابع لجماعة الجهاد الفلسطينية، وتميز هذا الهجوم بكونه أول عملية عسكرية إسرائيلية مباشرة ضد سورية منذ عشرين عامًا، تلاه تصعيد في التهديدات الإسرائيلية بشن مزيد من الغارات، مع نشر قوات إضافية في منطقة الجولان بعد يومين فقط من الهجوم، وذلك تحت ذريعة اتخاذ تدابير احترازية خشية أي تصعيد عسكري من الجانب السوري.
وجهت سورية تهديدًا مبطنًا لإسرائيل بأنها لن تفرط في شبر من الجولان أو طبريا، إلا أن هذا التهديد ظل في إطار الكلمات دون أن يتحول إلى أفعال، إذ شغلتها أحداث لبنان المشتعلة وتورط الدولة السورية في أزمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني “رفيق الحريري” [1944م – 2005م]؛ وفي خضم هذه الأوضاع، لم تتوانى إسرائيل عن استغلال الظرف، فقامت بشن غاراتها الجوية، مستهدفة مواقع الفرقة الثالثة التابعة للجيش السوري في المنطقة العازلة التي تربط بين نقطة حدود المصنع اللبنانية وجديدة يابوس السورية.
وفي 6 من سبتمبر 2007، قامت طائرات حربية إسرائيلية بالتسلل إلى الأجواء السورية، قادمة من البحر المتوسط باتجاه الشمال الشرقي، في خرق واضح لجدار الصوت، وجاء هذا الاعتداء بعد شهرين من اختتام مناورات عسكرية إسرائيلية في الجولان المحتل، مما أثار تكهنات حول نوايا إسرائيلية تصعيدية.
ورغم إعلان سورية أنها لن تصمت على هذا الاعتداء، إلا أنها لم تتخذ أي خطوات عسكرية، ويُرجع البعض ذلك إلى العزلة الدولية التي فرضتها تداعيات اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وما أعقب ذلك من اغتيالات سياسية داخل لبنان، وفي ظل هذا المشهد، اقتصر رد سورية على دعم حزب الله في مواجهة إسرائيل.
وحدثت اشتباكات أخرى في عام 2010م، إلى أن كان آخر هجوم إسرائيلي على الجولان قبل أحداث الثورة السورية، هو هجوم 5 يونيو 2011م، عندما أطلق الجيش الإسرائيلي الرصاص الحي على مئات المتظاهرين الذين حاولوا عبور الحدود مع إسرائيل في هضبة الجولان السورية المحتلة، وذلك خلال مسيرات إحياء ذكرى النكسة التي تصادف حرب عام 1967م، وأسفر الحادث عن مقتل 20 شخصًا وإصابة 325 آخرين، بحسب مصادر إعلامية سورية، وجاء إطلاق النار عقب تمكن المتظاهرين من اختراق الخط الأول من الأسلاك الشائكة التي أقامها الجيش الإسرائيلي على خط وقف إطلاق النار لمنع تقدمهم، وفي مجدل شمس، الواقعة ضمن المناطق المحتلة من الجولان، تصاعدت المواجهات حين رشق مئات الشباب قوات الاحتلال بالحجارة.
كل ذلك وكان الجيش السوري النظام يستعد لقصف مدن في الداخل السوري بعد مارس 2011م، لتتزايد الاختراقات الإسرائيلية للجولان بعد تنامي انقسامات الجيش السوري النظامي وتعدد ولاءاته وتغير عقيدته القتالية بشكل كُلِّي.
[1] مذكرات إسحاق رابين، ترجمة دار الجليل، ط/3، دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، عمان ـ الأردن، 2015م، ص220.
[2] ديان يعترف، إعداد: شوقي إبراهيم، مراجعة عزيز عزمي، ط/1، كتاب التعاون، القاهرة ـ مصر، 1977م، ص ص213–214.
• وانظر أيضًا:
♦ موشيه ديان، قصة حياتي، ترجمة: الحسيني الحسيني معدي، ط/1، دار الخلود للتراث، القاهرة ـ مصر، 2011م، ص237
[3] باتريك سيل، الأسد .. الصراع على الشرق الأوسط، ط/10، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت ـ لبنان، 2007م، ص230.
[4] محمد الزعبي، الذاكرة السياسية، قناة العربية، يوم 6 مايو 2017م
[5] خليل مصطفى، سقوط الجولان، دار النصر للطباعة الإسلامية، شبرا ـ مصر، 1980م، ص30.
[6] ضافي الجمعاني، من الحزب إلى السجن 1948م – 1994م، ط/1، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت ـ لبنان، 2007م، ص ص325-334
[7] بنود اتفاقية حول الفصل بين القوات الإسرائيلية والقوات السورية، موقع الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية
[8] محمد السعودي إبراهيم، الموقف العربي والدولي من ضم إسرائيل للجولان، المجلة العلمية، كلية اللغة العربية بأسيوط، جامعة الأزهر، ج3، ع43، إصدار 3، أغسطس 2024م، ص ص2291–2345.
الكاتب
-
وسيم عفيفي
باحث في التاريخ .. عمل كاتبًا للتقارير التاريخية النوعية في عددٍ من المواقع
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال