“الحضارة المفقودة” جدل جديد حول الحضارة المصرية القديمة
-
إسراء أبوبكر
صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال
منذ بضعة سنوات زارتني صديقة أجنبية في مصر شرعت تطوف البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، الأقصر، أسوان، الجيزة، الإسكندرية وسيناء؛ كانت تقف أمام الأهرامات تدور مقلتاها في محجرها كالممسوس غير قادرة على الإحاطة بالبناء الرهيب بعينين اثنتين فقط، تشارك الصور من الكرنك وفيلة ومعبد الأقصر، لا تتخيل كيف يمكن أن تبخس عدسات الكاميرات مثل هذا الجمال. من ينظر إلى آثار تلك الحضارة بعين العقل لا بعين العادة يفتح على نفسه أبواب التساؤل، علامات الاستفهام التي حيرت علماء المصريات على مدى عقود ولا تزال بعضها قائمة.
نظرية مصطفى محمود تكنولوجيا تعكس الجاذبية
تلك الألغاز التي يتضح بعضها مع مرور الوقت دفعت علماء ومفكرين إلى تفسيرات مستغربة، فليس بالبعيد علينا ما طرحه عالم شهير مثل د. مصطفى محمود في حلقة الهرم المعجزة، وهو الاسم الذي أطلقه على هرم خوفو البالغ وزنه خمس ملايين وخمسمائة ألف طن وتزن بعض أحجاره مائتي طن مرفوعة إلى أكثر من خمسين متر، وهو ما دفع محمود إلى تبني نظرية تقول بتوصل المصريين القدماء إلى تقنية تعكس الجاذبية الأرضية؛ جعلتهم يرفعون تلك الأحجار الضخمة التي جلبوها من أماكن منها ما يبعد أكثر من خمسمائة ميل عن موقع الأهرامات. لكن علماء المصريات اكتشفوا العديد من البرديات التي كتبها العمال المشرفون على بناء الأهرامات، تصف كيف استخدموا الممرات المائية المتفرعة من نهر النيل لنقل الأحجار مستغلين أوقات الفيضان، والمصاطب الترابية التي جروها عليها باستخدام أسطوانات من الجرانيت.
لم تكن نظرية د. مصطفى محمود الوحيدة في محاولات اكتشاف ألغاز المصريين القدماء، وحتى الآن لا يزال الباب مفتوحًا أمام الاجتهاد بحثًا عن الإجابات؛ أحمد عدلي صاحب سلسلة “الحضارة المفقودة” أحد الأصوات التي طرقت تلك الأبواب، مهندس مشغوف بالمصريات يقدم طرحًا حول وجود حضارة أقدم وأكثر تقدُّمًا من عصور الأسرات ربما يعود عمرها إلى 10000 آلاف ق.م، وفق تصور عدلي فإن تلك الحضارة كانت قائمة على علوم حديثة واكتشفت الكهرباء والإنارة حتى انتهت في إثر كارثة مجهولة، ثم جاءت الأسرات ونسب ملوكها الآثار الباقية منهم إلى أنفسهم.
أدلة جيولوجية ترجع إلى 10000 قبل الميلاد
ربما يكون عدلي في الحضارة المفقودة هاوٍ لكنه يعرض على مدى سنوات نتيجة مشاهداته ونظريات علماء غربيين كانت مرفوضة في علم المصريات ولا تزال، لكنه سعى لتفنيدها بالتجربة والقياس ليحكم عليها بعقله وعينه، عرض خلال سلسته صورًا تظهر عوامل التعرية على جسم أبو الهول والتي تشير إلى تعرضه لأمطار غزيرة لم تشهدها تلك المنطقة إلا خلال العصر المطير قبل أكثر من 10000 آلاف سنة ق. م، إضافةً إلى استنتاجات مبنية على خرائط فلكية تشير إلى أن ترتيب وموقع بناء الأهرامات كان متناسقًا مع حزام أوريون الذي تراص بالشكل نفسه قبل 10500 سنة ق. م.
تكنولوجيا مجهولة أم حرفة ومهارة
لفت عدلي خلال الحضارة المفقودة أنظار متابعيه إلى الدقة المتناهية في نحت تماثيل ومسلات من أحجار الجرانيت شديدة الصلابة، وهو ما لا يمكن الوصول إليه إلا باستخدام تكنولوجيا نحت مثل الليزر أو قواطع ألماس، ومما يشير إلى أن ملوك عصر الأسرات انتحلوا تلك الآثار ونسبوها إلى أنفسهم ركاكة النحت الذي وقَّع أسمائهم على الآثار نفسها التي تحمل نقوشًا أخرى أكثر احترافية بشكل فيه مقدار من التفاوت.
توابيت السرابيوم قصة أخرى أُثيرت في الحلقات نظرًا لأحجامها الكبيرة ووجودها في حجرات متصلة بممرات ضيقة يصعب أن تنتقل خلالها التوابيت يدويًا، ناهيك عن ضخامة حجمها بالنسبة لأحجام المومياوات وكونها فارغة لم يدفن فيها أحد. لكن الأكثر إثارة ما اقترحه حول تصميم الأهرامات وعددها الكبير، وهو ما فسره بأنها لم تكن في الأصل مقابرًا للملوك بل مصانع لتوليد الكهرباء.
السلسلة منشورة على قناة عدلي منذ ثلاث سنوات اختتمها بالحلقة الأخيرة “الكارثة” قبل أسابيع، وهو ما حرك موجة كبيرة من النقاش على مواقع التواصل بين المتابعين، منهم ما وصف نظرياته بأنها أفضل ما ورد من الإجابات حول أسرار الحضارة المصرية، ومنهم ما وصفه بالعلم الزائف الذي يفتح الباب لادِّعاءات تسعى لنسبة الحضارة المصرية إلى التراث اليهودي أو الكائنات الفضائية؛ لكن لم يختلف أحد حول جاذبية المنهج المنطقي-غير المبتوت في صحته- الذي استخدمه وبراعة العرض والمجهود المبذول فيه.
زاهي حواس “هلاوس رددها غربيون وصدقها باحثون عن الشهرة”
لم تكن النظريات التي طرحها عدلي وليدة أفكاره بل مأخذوة من كتب لمؤلفين غربيين جاءت سلسته بحثًا خلف ما قرأه من استنتاجاتهم، ساق براهينه وانتهى إلى قناعات أعلن أنه مستعد تمامًا للتخلي عنها إذا ثبُت له زيفها؛ وهو ما قام به المتخصصون منذ بدأ اللغط حول المصريات على مدار عقود؛ في حديثه مع الميزان أفاد د. زاهي حواس عالم المصريات ووزير الآثار الأسبق أن كل تلك الأقاويل ظهرت على ألسنة كتاب غربيين مولعين بالخرافات والأساطير، منهم ما يربط الحضارة المصرية بالمدينة المفقودة أتلانتس ومنهم ما ذهب مذهبًا أكثر جموحًا وربطها بفضائيين؛ وهو ما توهموه حين شاهدوا عظمة الأهرامات التي لم تستوعب عقولهم كيف بناها البشر.
وأشار حواس إلى أن مصدِّقي تلك النظريات لو اطَّلعوا على الكشوف المتتالية لوجدوا التفسيرات المنطقية لتساؤلاتهم، من أهمها بردية وادي الجرف المكتشفة منذ ثلاث سنوات الخاصة بأحد رؤساء العمال القائمين على هرم خوفو؛ يشرح فيها كيف قطعوا حجارة الأهرامات ثم هذبوها ونقلوها إلى الموقع، إضافة إلى كثير من الكتب والبرديات التي توضح كل تلك التفاصيل.
كما نجد العديد من التجارب التي قام بها باحثون توضح كيف يمكن أن تتحقق تلك الإعجازات الهندسية بطرق بسيطة ومبتكرة، وهي بالفعل تدل على براعة فذَّة وتفكير تخطى حدود زمانه باستخدام أدوات بسيطة وظَّفها بطريقة مختلفة.
إضافةً إلى الأخطاء الحسابية التي لا تتطابق مع تلك النظريات القائلة بتطابق اصطفاف الأهرامات مع حزام أوريون، وسهولة تفنيد الأدلة الجيولوجية بخصوص آثار التعرية على جسم أبو الهول؛ فالأقرب للواقع أن تلك الآثار كانت موجودة مسبقًا على الحجارة قبل نحت التمثال ولا يوجد مثلها على الأهرامات وهي صاحبة المساحة الأكبر.
أضاف حواس أن الرد على تلك الادعاءات أخذ منه سنوات وتم توضيحه في كتبه ومؤتمراته، ولا يمكن بحال أن نترك الدراسات التي أُجرِيت وتحققت من كل جزء حول الأهرامات وأبو الهول والسرابيوم وغيرها من الكشوفات لنصدق أي كلام ليس له أساس من الصحة، خاصةً وأنه الطريق السهل للبحث عن الشهرة والضجة الإعلامية وغير قائم على أساس علمي.
وجَّه حواس الدعوة لمروجي تلك النظريات للقراءة حول الأهرامات والبرديات التي توضح كل تفاصيل البناء والهدف منه ثم الحكم بوضوح، مشيرًا إلى أنها لن تؤثر على حضارة عريقة ممتدة لآلاف السنوات ومعروفة في العالم أجمع.
الكاتب
-
إسراء أبوبكر
صحفية استقصائية وباحثة في شؤون الشرق الأوسط، نشأت تحت مظلة "روزاليوسف" وعملت في مجلة "صباح الخير" لسنوات.
كاتب برونزي له اكثر من 100+ مقال