الحكاية مش حكاية السد (01) اتفاقية مياه النيل .. هل فعلًا اتفاقية استعمارية
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال
سد النهضة.. اسم لأزمة ضخمة مستمرة على مدار عقد من الزمان، مفاوضات ومباحثات وشد وجذب وتحركات دبلوماسية على أعلى المستويات.. واكب كل ده أداء إعلامي بائس، لا الجمهور المصري فهم منه إيه المشكلة ولا إيه أبعادها.. ولا حتى قدر يحدد حجم تعقيدات الأزمة ومدى تشعبها، ماحدش وضح للرأي العام كم اللاعبين في الساحة ولا مدى حجم وتنوع أداء الدبلوماسية المصرية.. لا الأداء الحالي وكفائته في محاولة الحل ولا الأداء البائس تاريخيًا اللي صنع الأزمة.
ممالك وادي النيل.. تقاطعات تاريخية
مبدئيًا إحنا بنتكلم عن صراع أطرافه أقدم حضارات في المنطقة، التاريخ القديم فيه مجلدات عن العلاقات بين الممالك الكبرى في الحيز الجغرافي للدول الحالية (مصر، السودان، أثيوبيا)، كلها ممالك ليها ثقلها التاريخي والحضاري اللي ورثته الدول التلاتة بشكل أو بأخر.
تقاطعت الممالك دي مع بعض بكافة الأشكال الطبيعية في زمانها، ويعد أبرز أشكال التعامل الهامة في سياقنا هو الجانب الديني، ففي نُص القرن الأول الميلادي أعتنق الملك أكسوم، ملك الحبشة، المسيحية وأرسل للبطريرك أثناسيوس “بابا الأسكندرية” يطلب منه تأسيس أبرشية حبشية تابعة للكنيسة الأم في الشمال، وفعلا حصل وأستمرت الكنيسة في الحبشة عبارة عن إبراشية تابعة للكرسي البباوي في الأسكندرية حتى تم الانفصال بينهم سنة 1959.
امبريالية تأمين منابع النيل
بدأت الحدوتة الحالية من أيام محمد علي باشا، وطموحه الكبير إنه مايبقاش شبه أي والي مسلم مسك مصر.. يبني جامع وسبيل ويعيش له يومين يحلب فيهم البلد ومتشكرين على كده (باستثناء تجربة الفاطميين).
الراجل كان مخطط لبناء دولة حديثة على الطراز الأوروبي الصاعد وقتها، فكانت أول مهمة في خطته، بعد سيطرته على السلطة بالخلاص من المماليك وإخضاع شيخ العرب همام في الصعيد وكسر شوكة قادة ثورة 1805 اللي وصلته للحكم، هي تأمين منابع النيل.
انطلقت جيوش محمد علي جنوبًا لتخضع كل ما قبلته في سكتها إلى أعالي النيل، فقوضت ممالك تمامًا ونهائيًا ممالك النوبة والفونج وباقي ممالك منطقة السودان الحالي (فيما عدا سلطنة الفور في الغرب.. أقليم دارفور حاليًا).
المرحلة الخديوية.. وانتصار الحبش
أواخر عام 1874 أطلق الخديوي إسماعيل حملة من 120 ألف مقاتل لمهاجمة الأراضي الأثيوبية، أنطلاقًا من كسلا، بدون الخوض في تفاصيل كر وفر.. مع نهايات عام 1875 كانت القوة الخيديوية أبيدت إلا قليلا، وكان ابن أخو نوبار باشا “رئيس الوزراء” ضمن ضحايا الحملة الفاشلة، ودي نقرا عنها تحت اسم معركة غوندت.
تقريبًا الخديوي فهم أن المشكلة كانت في العدد، فمبعت حملة تانية أكبر عددًا.. حوالي 200 ألف مقاتل، وبالفعل كانت موقعة غوار سنة 1876 حاسمة لفكرة الصراع العسكري ضد الحبشة، حيث واجهت الحمل الخديوية قوات حبشية قوامها حوالي 200 ألف مقاتل.
تولى القنصل الفرنسي مسيو سارزاك مهم إستعادة ما تبقى من جنود الخيديوي على قيد الحياة، واحتفظت الحبشة بجوز مدافع كانوا معاهم، معروضين دلوقتي في الساحة الكبرى لمدينة أكسوم.
وضع الدول التلاتة في حقبة الكولونيالية
مع انطلاق موجة الحملات الأوربية المسعورة لإقامة مستعمرات تابعة لها، نالت أفريقيا النصيب الأكبر منها وكانت نقطة انطلاقها الأولى (باحتلال بلجيكا للكونغو)، في هذه الموجة سقطت مصر ومستعمرتها السودانية تحت الاحتلال الإنجليزي في واقع معقد سياسيا وإداريا.
أثيوبيا أحد أقل الدول الأفريقية تعرضًا للاحتلال الأوربي، فلم يتمكن المحتل الإيطالي أنه يستمر فيها إلا لسنوات قليلة، بس ده لم يمنع محاصرتها بالمستعمرات من كل التجاهات تقريبا.
في تلك الأجواء تم توقيع اتفاقية 1902 بين حكومة جلالة الملكة “بوصفها دولة احتلال مصر-السودان” وبين حكومة أثيوبيا “بوصفها دولة مستقلة ذات سيادة”. وإن كانت منهكة بعد انتصارها في الحرب الإيطالية الأثيوبية الأولى (كانت إيطاليا تحتل الصومال وأريتريا).
كلمة حق يراد بها باطل
تحدثت أديس أبابا مؤخرًا عن رفضها لما اسمته باتفاقيات الاستعمار ( اتفاقية مياه النيل ) وفعلا وكما ذكرت تم توقيع اتفاقية 1902 في عهد الاستعمار البريطاني لكل من مصر والسودان.. بس زي ما مذكور كانت أثيوبيا دولة مستقلة ووقعت حكومتها المستقلة على الاتفاقية عكسنا إحنا والسودان اللي وقعت عننا دولة الاحتلال.
تاني نقطة مهمة توضح لنا أن ده كلام حق مراد به باطل، هو بنود اتفاقية مياه النيل نفسها، الاتفاقية مش بس شملت تعهد الأمبراطور منليك التاني إنه لا يبني ولا يسمح ببناء سدود على النيل الأزرق إلا بمراجعة والاتفاق مع حكومة جلالة الملكة وحكومة مصر (المادة التانية).
إنما شملت اتفاقية مياه النيل في مادتها الأولى ترسيم الحدود بين السودان وأثيوبيا، الترسيم اللي بمقتضاه ضمت أثيوبيا أقليم بني شنقول (منطقة بناء سد النهضة حاليا)، يعني لو لغينا المعاهدة دي لإنها معاهدة احتلال وبقى من حق أثيوبيا تبني سدود بدون الرجوع لدول المصب.. هتبقى دلوقتي بتبني سدها على أراضي سودانية أو على الأقل خالص أراضي محل نزاع.
وماذا بعد
بانتصار الحلفاء في الحرب التانية بفضل المشاركة الأمريكية، وما ترتب عليه من تأسيس منظمة الأمم المتحدة.. انتهت حقبة الكولونيالية، ونشأت أنظمة “وطنية” في كل من مصر والسودان.. وبدءت مرحلة جديدة في العلاقات السياسية على ضفاف النيل.
مرحلة جديدة هتحتاج موضوع جديد… انتظرونا
الكاتب
-
رامي يحيى
شاعر عامية وقاص مصري مهتم بالشأن النوبي ونقد الخطاب الديني
كاتب فضي له اكثر من 250+ مقال