الدبلوماسية المصرية بين واقع القارة الإفريقية وأولويات الأمن القومي
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
تتمتع مصر بموقع جيوإستراتيجي مميز يتيح لها لعب دور حيوي في صياغة السياسات الإقليمية والدولية، سواء في أوقات الحرب أو السلم. وبفضل هذا الموقع، أصبحت مصر واحدة من اللاعبين الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، التي تتسم بتاريخها المعقد والمأزوم على مدى عقود طويلة.
التحولات الاستراتيجية في القرن الأفريقي
وفي ظل توترات المنطقة سعت مصر لتأمين أمنها القومي من خلال تكيثف نشاطها الدبلوماسي في منطقة القرن الإفريقي، إدراكًا منها أهمية هذه المنطقة كإحدى الدوائر الأساسية للسياسة الخارجية المصرية. فالقرن الإفريقي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية سد النهضة وتوترات البحر الأحمر، اللذين يؤثران مباشرة على أمن مصر المائي وحركة الملاحة في قناة السويس، خاصة في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر 2023م التي زادت من تعقيدات الوضع الإقليمي.
ولقد شهدت السنوات الأخيرة تحولات استراتيجية في القرن الإفريقي أعادت تشكيل العلاقات الإقليمية؛ فتزايد النفوذ الإثيوبي وتداعيات مشروع سد النهضة أثارا توترات أمنية أثرت على استقرار المنطقة برمتها. في ظل هذا الوضع، أدركت مصر أن دورها كقوة إقليمية يعتمد على استعادة نفوذها الاستراتيجي وتوطيد علاقتها مع دول القرن الإفريقي. وبدأت مصر بتبني سياسة تجمع بين الدبلوماسية النشطة والدعم التنموي والأمني لدول مثل إيرتيريا و الصومال والسودان وجيبوتي في محاولة لتشكيل تحالفات استراتيجية في مواجهة التحديات الإقليمية الراهنة.
استغلال السياسة الإثيوبية المتقلبة
منذ تولي آبي أحمد رئاسة الوزراء في إثيوبيا عام 2018، تبنت الحكومة الإثيوبية سياسة “تصفير المشاكل” كخطوة طموحة نحو تعزيز الاستقرار الإقليمي، وأثمر ذلك عن نشأة تحالف ثلاثي ضم إثيوبيا، إريتريا، والصومال، وقد كان الهدف الرئيسي من هذا التحالف هو دفع عجلة التعاون الاقتصادي، وتعزيز الاستقرار الأمني في منطقة القرن الأفريقي، فضلًا عن تطوير البنية التحتية والتبادل التجاري بين الدول الثلاث.
وقد حققت إثيوبيا وإريتريا مكاسب سياسية عبر إنهاء حالة الجمود التي امتدت لعقود، بينما دعمت إثيوبيا حكومة الرئيس الصومالي السابق فرماجو في تقوية سلطة المركز ضد الولايات الفيدرالية، في مساعٍ لتعزيز نفوذها وتوحيد القرار الصومالي. كما عُقدت اتفاقيات تعاون عسكري بين الدول الثلاث لتأمين المنطقة، ومكافحة الجماعات الإرهابية، وتوحيد الجهود الأمنية المشتركة.
غير أن هذا التحالف بدأ يفقد تماسكه في ظل السياسة الإثيوبية المتقلبة، إذ انقلبت توجهات إثيوبيا الاستراتيجية واتخذت مسارات تنطوي على مغامرات أحادية الجانب، وكان أبرزها توقيع مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال الانفصالي مطلع 2024، التي شملت استئجار ميناء بربرة، وإنشاء خط سكة حديد وأنابيب نفط تربط إثيوبيا بساحل أرض الصومال. هذه الخطوة أغضبت دول المنطقة؛ فالحكومة الصومالية اعتبرت هذا التحرك انتهاكًا لسيادتها ويشكل تهديدًا لسلامة أراضيها، وظهرت مخاوف من زعزعة استقرار المنطقة ككل نتيجة هذا الاتفاق.
في المقابل أدركت مصر من خلال مراقبتها للتغيرات السياسية في القرن الأفريقي أن هذه التحالفات غير المستقرة قد تفتح الباب أمامها لتعزيز نفوذها الإقليمي، خاصة في ظل التهديدات المستمرة لأمنها المائي جراء التعنت الإثيوبي بشأن سد النهضة. وبدأت مصر في تعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، خاصة إريتريا، التي تعتبر بموقعها الجيوسياسي على البحر الأحمر وبجوار السودان حليفًا استراتيجيًا لمصر، فقد كثفت مصر من زياراتها الدبلوماسية إلى العاصمة أسمرة، وقام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بزيارات رسمية، نقل خلالها رسالة دعم إقليمي واستعداد للتعاون الوثيق في قضايا الأمن والاستقرار في القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
أرض الصومال
تأتي هذه التحركات المصرية مدفوعةً برغبتها في مواجهة سياسات إثيوبيا الأحادية في المنطقة، حيث أسفر هذا التنسيق بين مصر وإريتريا عن ضرورة تكثيف الجهود لحفظ استقرار السودان ووحدة أراضي الصومال، وتعاون مشترك لاستعادة استقرار البحر الأحمر وضمان سلامة الملاحة في باب المندب، مما يعد جزءً من استراتيجية مصرية أوسع تسعى لتعزيز وجودها الإقليمي وضمان مصالحها الحيوية، بما في ذلك الدفاع عن أمنها المائي.
ولم تقتصر مصر على تعزيز تعاونها مع إريتريا فقط، بل عمّقت أيضًا شراكتها مع الصومال، وقد استغلت القاهرة دعم أثيوبيا لانفصال إقليم “أرض الصومال” وتوقيعها اتفاقيات تمنحها منفذًا بحريًا على ساحل البحر الأحمر. يذكر أن الشراكة المصرية –الصومالية شملت إرسال شحنتين من المساعدات العسكرية خلال أقل من شهر، ضمن بروتوكول التعاون العسكري الموقع بين البلدين. إلى جانب ذلك، أُعيد افتتاح السفارة المصرية في مقديشيو، ثم توجت مساعي الدبلوماسية المصرية بتحالف ثلاثي بين مصر وإريتريا والصومال.
على صعيد آخر، تلعب مصر دورًا متعدد الجوانب في الأزمة السودانية منذ بدء الحرب الأهلية في السودان أبريل 2023، حيث تدعم استقرار السودان من خلال دعم الجيش السوداني بشكل علني، معتبرة إياه ركيزة أساسية لحفظ الأمن والاستقرار في البلاد، خاصةً في ظل تصاعد حدة النزاعات الداخلية، ما يؤثر سلبًا على أمنها القومي من الناحية الجنوبية.
إلى جانب ذلك، تتدخل مصر في جهود الوساطة الدولية، محاولةً التوفيق بين الأطراف المختلفة للوصول إلى حل تفاوضي يُنهي النزاع. وقد ظهرت هذه الجهود بشكلٍ ملحوظ في اللقاءات الدبلوماسية الأخيرة، حيث طالبت القاهرة بعدم مساواة الجيش السوداني مع الأطراف الأخرى في أي محادثات دولية، مشددة على أهمية دوره كحامي للوحدة الوطنية في السودان.
محاولة إخماد النزاع الإقليمي
لقد مر أكثر من عام كامل على الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، تاركًا وراءه آثارًا مدمرة على الأرض والإنسان، ولقد لعبت مصر خلال هذا العام دورًا محوريًا سواءً في تقديم الدعم الإنساني، أو محاولة رأب الصدع عبر الجهود الدبلوماسية، في وقت تزداد فيه الأوضاع تعقيدًا بسبب اشتعال التوترات الإقليمية، خاصة بين إيران وإسرائيل، إضافةً إلى نزاعٍ متجددٍ مع حزب الله في لبنان
ومع تصاعد الهجمت الإسرائيلية واستمرار الحصار على غزة منذ طوفان الأقصى في أكتوبر 2023، وجدت مصر نفسها ملزمة لدعم القضية الفلسطينية وتقديم المساعدات الإنسانية ففتحت معبر رفح بشكل دوري، متحملةً عبء توفير نحو 80% من المساعدات الإنسانية التي دخلت إلى القطاع. ولم تكن هذه المساعدات مادية فقط، بل كانت مشفوعةً بموقف سياسي ثابت يُدين محاولات تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، ويُدافع عن حقوقهم التاريخية.
كما شاركت مصر في تحركات قانونية، إذ انضمت لدعوى دولية حركتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وساهمت في حشد الرأي العالمي لضرورة وقف العدوان، ما أدى إلى تغير ملحوظ في مواقف العديد من الدول التي طالبت بوقف فوري لإطلاق النار، ولعل آخرها خطاب الرئيس المصري في قمة البريكس.
التوجه نحو الهدف الرئيسي
لم تقتصر جهود مصر على القضية الفلسطينية وحدها، بل امتدت لمحاولة إخماد نزاع أكبر اشتعل بين إسرائيل وإيران ويجر المنطقة نحو المزيد من عدم الاستقرار. وعلى هذا فقد استقبلت القاهرة في أكتوبر 2024، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حيث ركزت المحادثات على النزاع في غزة، إضافةً إلى التصعيد الحاصل في لبنان، والذي يعكس تجاذبات كبيرة بين إسرائيل وحزب الله ومن ورائه إيران،. جاءت هذه الزيارة في إطار تعاون إقليمي يهدف للتوصل إلى حلول دبلوماسية للأزمات المتفاقمة، وقد أعقبها حدث دبلوماسي بارز، إذ استقبلت مصر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في زيارة هي الأولى منذ 40 عامًا، تعكس استعداد مصر للعب دور الوساطة مع مختلف الأطراف، ومحاولاتها الجادة في تهدئة الأوضاع الإقليمية كخطوة استراتيجية تهدف إلى فتح قنوات تواصل مع كافة الأطراف، في وقت يُخيم فيه شبح الحرب على المنطقة، خاصة مع الهجمات الصاروخية المتبادلة بين تل أبيب وطهران.
إن هذه التحركات المصرية تعكس رغبة مصر القوية في استعادة دورها كمركز ثقل إقليمي يسعى لاستقرار المنطقة، كطرف فاعل يسعى لدرء أية صراعات من شأنها تهدد استقرار أنها القومي وفق دعم الحلول السلمية.
إقرأ أيضًا: هل تفادينا السيناريو اللبناني بإسقاط الجماعة
الكاتب
-
مي محمد المرسي
مي محمد المرسي صحافية مهتمة بالتحقيقات الإنسانية، عملت بالعديد من المؤسسات الصحافية، من بينهم المصري اليوم، وإعلام دوت أورج ، وموقع المواطن ، وجريدة بلدنا اليوم ، وغيرهم .
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال