الدليفري زوجًا !
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال
كان الحَرَج مسيطرًا على الجلسة .. نصمت لدقائق ثم يقول أحدهم : أهلًا أهلًا ، ونرد : أهًلًا شرفتونا .. وهكذا دواليك حتى تمت الساعة الكاملة، بين الـ (أهلًا)، و الـ(أهلًا شرفتونا) .. حتى وضع والده حدًا للصمت المطبق على الصدور قائلًا : إبني يعمل دليفري في مطعم البرجر الشهير.. وطالبيتن القُرب منكم في بنتكم .. فرد خالي حاسمًا موقفه : لا .. لن نوافق ! هل لإبنكم في تلك الوظيفة مستقبل؟ .. تقدر تقولي كيف سيترقّى في عمله؟ الآن يوصل الفول والطعمية وغدًا يوصل البيتزا؟!
اشتدت حرارة الجلسة وتصبب العرق فوق جبهة الرجل، وطال الحديث في جدال حول مستقبل المهنة وأهميتها، وفي النهاية (مصمصت) زوجة خالتي شفاها قائلة: يبدو أن القسمة والنصيب لم يرضوا عن تلك الجوازة يابني .. لكننا سنعمل بأصلنا وسنشاور بعضنا ونبلغك بالرد، شرفتونا بزيارتكم ! .. وخرجت عائلة العريس من المنزل بوجوه مُقبضة، غير راضيين عن قلة الذوق المبالغ فيها من الخال وزوجته، بينما ضحك جدي بنصف ابتسامة خبيثة وثبتت نظرته الواثقة من تحت نظارته والتي لم ينقلها من على العريس طيلة الجلسة حتى أثناء خطواته إلى الباب قبل أن يختفي مع أسرته، وينفجر باب غرفة بنات العائلة الملتصقين بالباب محاولين سماع أي همس من هنا أو هناك وخرجوا منه إلى الصالة، لتسأل ابنة خالي : ها .. ما رأيكم فيه؟ فقطع سؤالها خالي وزوجته قائلين في تناغم وكأنهم كورال : لا .. تؤ تؤ!، لتصرخ في وجههم : بس أنا بحبه! ليحتد الخلاف وتتعالى الأصوات بين الجميع .. ليأتي صوتًا أجشًا وكأنه نفخة من نفخات الصوت، وقال: اصمتوا جميعًا يا أغبياء .. واسمعوا الكلام المفيد ! .. وكانت هذه أول كلمات جدي الصامت لينزل سهم الله على الجميع .. وننصت جيدًا للمحاضرة الذي يستعد لإلقائها .
حارس المزاج الأمين
يعتبر رجل الدليفري يا (جدعان) الأكثر نُدرة عالميًا.. اختلف الجميع حول من يؤتمن على العرض ومن يؤتمن على المال، ونسوا وتناسوا تمامًا من سيؤتمن على المزاج؟ .. وبما إن مزاجنا في معدتنا، فهناك من يحمل لك مزاجك في صندوق خلفي مُثبّت على الموتوسيكل ويخرج من هذا الشارع ويعرج إلى تلك الحارة ويشق الزحام ليأتي لك بمزاجك في جُنح الليل، بينما أنت منتظر من ينعنشك في هذا الوقت المتأخر .. وفي بلاد لا تعمل بمثَل الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، ويحددون التوقيت بلا ساعة ودقائق (في الضُهرية أو العصرية أو السهرة) .. وبين كل هذه الفوضي هناك رجل لايزال يحدد وقته بالدقيقة ! إنه الدليفري يا جدعان .
ماشي بنور الله
هل سألتم أنفسكم ماذا يقول الدليفري في عقله أثناء مشوار توصيل الطلبات؟ .. هل يسأل : لماذا يطلب هذا الزبون فرايدي تشيكن دائمًا في الرابعة فجرًا بينما لا يطلب شاورما لحمة أبدًا؟ هل ساندويتش الفرايدي تشيكن في هذا التوقيت يساعده في استعادة ذكرى ما؟ هل كان هذا الأوردر المفضّل لصديقه الذي هاجر إلى بلاد الفرنجة وتركه وحيدًا هنا بلا أصدقاء؟ .. لماذا تطلب تلك الزبونة بيتزا في السابعة صباحًا؟ هل هي ممن يفطرون الأخضر واليابس، أما أنها ممن لا ينامون الليل بسبب جرح غائر في القلب فانقلب ليلهم لصباح؟ .. كل هذه الأسئلة التي لا يجد لها الدليفري إجابة ومع ذلك يستمر في عمله مؤشرًا جيدًا يا جدعان على نجاح زواجه من بنتنا .. فالزوج الذي لا يسأل “لماذا؟” هو أنجح زوج في التاريخ !
تاريخيًا .. أكثر من مجرد مهنة
تقول المصادر أن أول حالة أوردر دليفري كانت في إيطاليا تحديدا في عام 1889، وذلك عندما وصل الدليفري إلى القصر العظيم في نابولي عندما قرر الملك أمبيرتو والملكة مارجريتا أن يدخلا التاريخ بالصدفة .. لكن الحقيقة أن الدليفري هو مضمون أكثر منه مهنة، حيث يقول لك أحدهم (خلي عنك) .. بالضبط كأن يفسح أحدهم مكانه في المترو لأحد الواقفين من الذين ظهر عليهم التعب حيث وجعته قدميه من الوقفة فقرر أحدهم أن يريحه .. والمعلومة الأكثر صحة هي أن تاريخ هذه المهنة من تاريخ البشرية، منذ أن قضم آدم من التفاحة .. حيث أن كل من حمل خيرًا لأحدهم قاطعًا الطريق له يعتبر – يا جدعان – “دليفري” !
لن تنتهي مهنة الدليفري أبدًا
العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية تؤكد أن معظم المهن سوف تتحول إلى أبلكيشنات في القادم من السنوات، حيث أن أصحابها ربما لن يمارسوها كما عرفوها ودرسوها من مئات السنين .. لكن الدليفري مضموناً سيتطور مع تطور الزمن، حيث كان الدليفري على الأقدام ، ثم على حصان، ثم على موتوسيكل، وسيتطور حتى لو طلع الإنسان إلى الفضاء، سوف تجد مكوك فضائي مكتوب عليه “أسرع دليفري في زحل”، “عفاريت المريخ“، “ملوك المجموعة الشمسية”، لن تنتهي طالما الإنسان على وجه الأرض بالأخص أن الكسل زاد والخُلق ضاق وأصبح الدليفري احتياجًا أكثر من رفاهية .
وهنا سكت الجدّ بعد أن أخذ نفسًا عميقًا بعد تلك الخطبة العصماء وتبادل مع ابنة الخال ابتسامته الخبيثة، وفي خلفية الابتسامة كان صوت خالي في الهاتف : أيوا يابني .. نحن موافقين .. نعم الخميس القادم !
الكاتب
-
محمد فهمي سلامة
كاتب صحفي مصري له الكثير من المقالات النوعية، وكتب لعدة صُحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية، ويتمنى لو طُبّقَ عليه قول عمنا فؤاد حدّاد : وان رجعت ف يوم تحاسبني / مهنة الشـاعر أشـدْ حساب / الأصيل فيهــا اسـتفاد الهَـمْ / وانتهى من الزُخْــرُف الكداب / لما شـاف الدم قـــال : الدم / ما افتكـرش التوت ولا العِنّاب !
كاتب ذهبي له اكثر من 500+ مقال